أمير الشرقية يثمن جهود أمانة المنطقة والجهات المعنية خلال فترة هطول الأمطار    مركز الملك سلمان للإغاثة يوقع اتفاقية لدعم برنامج علاج سوء التغذية في اليمن    «جدة التاريخية»: اكتشاف خندق دفاعي وسور تحصين يعود تاريخهما إلى عدة قرون    الجمعية السعودية لطب الأورام الإشعاعي تطلق مؤتمرها لمناقشة التطورات العلاجية    أمير الرياض يستقبل مدير عام التعليم بالمنطقة    بعد "البيانات الثلاثة" .. أزمة مباراة الأهلي والهلال إلى أين؟    سعودي ضمن المحكمين لجوائز الويبو العالمية للمنظمة العالمية للملكية الفكرية    إحباط تهريب أكثر من مليون حبة كبتاجون مُخبأة في إرسالية "فلفل وجوافة"    إنطلاق مؤتمر التطورات والابتكارات في المختبرات.. الثلاثاء    لاعب العين: إيقاف سلسلة الهلال "حدث تاريخي"    كيف تحمي نفسك من الاحتيال المالي عند تسديد المخالفات؟    ارتفاع أسعار النفط إلى 87.39 دولارًا للبرميل    إندونيسيا تصدر تحذيرًا من تسونامي    البنك المركزي الصيني يضخ ملياري يوان في النظام المصرفي    رونالدو ينتصر في قضيته ضد "يوفنتوس"    وصفات قرنفل سحرية تساعد بإنقاص الوزن    الرئيس التنفيذي ل"الدرعية" سفيرًا عالميًا للسياحة    "فنّ العمارة" شاهد على التطوُّر الحضاري بالباحة    الضويان تُجسّد مسيرة المرأة السعودية ب"بينالي البندقية"    الأرصاد: ارتفاع الموج متر ونصف بالبحر الأحمر    تعليم عسير ينفذ مبادرة ملفى أجاويد استهدفت 540 من طلبة المنح الدوليين وأُسرهم:    ملتقى الأعمال السعودي الإسباني يعزز التطوير العقاري    مكتب التعليم بالسلي يعايد منسوبيه    وزارة الداخلية تعلن بداية من اليوم الخميس تطبيق تخفيض سداد غرامات المخالفات المرورية المتراكمة بنسبة 50%    الأمطار تزيد من خطر دخول المستشفى بسبب الربو بنسبة 11%    آل الشيخ: العلاقات السعودية - الأردنية متقدمة في شتى المجالات    تحت رعاية خادم الحرمين.. المملكة تستضيف اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي    «العدل»: «تراضي» تنهي 7,700 قضية تجارية.. صلحاً    «نيوم» تستعرض فرص الاستثمار أمام 500 من قادة الأعمال    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    المملكة في قائمة أوائل دول العالم في تطوير إستراتيجية الذكاء الاصطناعي    5 فوائد مذهلة لبذور البطيخ    قطبا القصيم والشرقية وجهاً لوجه.. والشباب يصطدم بأبها    خادم الحرمين يرعى مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم    برامج ثقافية وترفيهية    محافظ جدة يطلع على خطط "الثقافة والفنون"    أسرة الهجري تحتفل بعقد قران مبارك    السديس يكرم مدير عام "الإخبارية"    أسرتا الطويل والجربوع تتلقيان التعازي في وفاة والدتهما    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    أكدوا أهمية منع تفاقم الأوضاع.. ولي العهد يبحث مع رئيس الإمارات وأمير قطر تداعيات التصعيد في المنطقة    "أيقونة" الإنسانية    10 آلاف امرأة ضحية قصف الاحتلال لغزة    أمير منطقة الرياض يرعى الحفل الختامي لمبادرة "أخذ الفتوى من مصادرها المعتمدة"    ماكرون: على الاتحاد الأوروبي توسيع العقوبات على إيران    ريال مدريد يقصي مانشستر سيتي ويتأهل لنصف نهائي أبطال أوروبا    تراثنا.. مرآة حضارتنا    مدرب النصر "كاسترو" يتعرّض لوعكة صحية تغيّبه عن الإشراف على الفريق    امرأة تصطحب جثة على كرسي متحرك إلى بنك بالبرازيل    أمريكا أكثر حيرة من ذي قبل !    تآخي مقاصد الشريعة مع الواقع !    شقة الزوجية !    الخليج يتوّج بلقب كأس اتحاد الطائرة    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس جامعة حفر الباطن    سمو أمير منطقة الباحة يلتقى المسؤولين والأهالي خلال جلسته الأسبوعية    جهود القيادة سهّلت للمعتمرين أداء مناسكهم    أمير الجوف يؤكد على تعزيز دور المجتمع في مسيرة التنمية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجاح التعلُّم التلقائي وإخفاق التعليم النظامي

إن تعلُّم الأطفال تلقائياً يمثل ظاهرة مدهشة فهم في السنوات الثلاث الأولى يستطيعون التعلُّم التلقائي للغة مع أنها نظام شديد التركيب والتعقيد، كذلك يمتصون تلقائياً الكثير مما تحمله اللغة من تصورات وطريقة تفكير وعادات واهتمامات وممنوعات ومسلَّمات ولهجات مختلفة لا تقل في روعة تلقائيتها ودقة أدائها عن روعة ودقة الاتقان اللغوي التلقائي ولكن مقابل هذه السهولة المدهشة في التعلُّم التلقائي تستجد صعوبة شديدة في تعليمهم فيما بعد بواسطة التعليم المدرسي أو الجامعي أو عن طريق معلمين يحاولون تلقينهم تلقيناً منظماً أو حتى إذا أرادوا هم التعلُّم بعد أن يكبروا استجابة لمتطلبات المجتمع وليس استجابة لميول ذاتية تلقائية، إنهم مهما أظهروا من نجاحات وتفوق في التعلُّم الاضطراري تظل نجاحاتهم شكلية مؤقتة لا تسفر عن تغيرات بنيوية في التفكير ولا عن تحولات نوعية في السلوك بل تبقى مجرد إضافات خارجية تنفرد بسرعة بعد تأدية الامتحانات، فما يتعلمونه في المدارس والجامعات يظل سطحياً وغير مخالط لبنياتهم الذهنية ولا ممتزجاً بعواطفهم ولا مؤثراً في تفكيرهم وسلوكهم وبسبب ذلك يتم نسيانه سريعاً بينما أن ما يمتصونه تلقائياً في طفولتهم يجري منهم مجرى الدم ويسري فيهم سريان الحياة، فهو الذي يصوغ عقولهم ويحدد اهتماماتهم ويرسم اتجاه عواطفهم ويكون منبعاً تلقائياً لمسار حياتهم...
إن هذا الفارق النوعي بين قدرة التعلُّم التلقائي وثباته وشدة تأثيره وهيمنته المطلقة على الذات طول الحياة مقارنة بعسر التعلُّم النظامي وسرعة نسيانه وضآلة تأثيره قد أثار وما يزال يثير تساؤلات عميقة ومحيِّرة ويحفز اهتمام الفلاسفة والمفكرين وعلماء التربية وعلماء النفس والباحثين في الشأن الإنساني وقد انجلى هذا الاهتمام عن إجابات كثيرة ومتنوعة فالفيلسوف بول تيليش يرى أن الاجابات القاطعة الواثقة التي يتلقاها الأطفال من الآباء والمعلمين والمجتمع هي التي تطفئ هذه القدرة المدهشة عندهم فيقول: «إن الولع بالحقيقة تُخمده الأجوبة التي لها وزن السلطة المسلَّم بها» وما من شك بأن للمسلَّمات سطوة قامعة تطفئ لهيب الأسئلة وتخمد توقد العقل وتدفع إلى الاستسلام وتوهم بالاكتفاء وتؤدي إلى التوقف عن البحث الفطري عن المعرفة، إن إخفاق التعليم في المجتمعات العربية يعود إلى تجاهل حقيقة أن التعليم محكوم بالبرمجة السابقة له وليس حاكماً لها...
إننا أمام قضية محورية تترتب عليها نتائج كبرى فبينما أن الأطفال لا يكتفون بالامتصاص التلقائي للغة وثقافة أبويهم بل يمتصون أيضاً وبشكل تلقائي بالمخالطة والمعايشة لغة البلد الذي يوجدون فيه أثناء طفولتهم إذا كانت لغته مخالفة للغة أهلهم، وأتيح لهم الاختلاط الكافي مع أطفال من البلد الأجنبي لكن بالمقابل نجد أن آلافاً من الكبار يُمضون سنوات طويلة في السفارات وغيرها من الأعمال في مختلف بلدان العالم ذات اللغات المختلفة ويخالطون أهل هذه البلدان ومع ذلك يبقون غير قادرين على التفاهم البسيط بلغة البلد الذي عاشوا فيه باستثناء أفراد تتوفر لديهم الرغبة والاهتمام والإرادة يتعلمون اللغة الأجنبية قصداً وليس تلقائياً، وأتذكر أنني التقيت في لندن برجل بريطاني عاش في العراق ثلاثين عاماً وتزوج عراقية مسيحية وصار له منها عدد من الأبناء والبنات ومع أن الأسرة بكاملها تتحدث العربية في المنزل لكنه ظل هو لا يستطيع التحدث باللغة العربية حتى عن أبسط الأمور، لأنه قد تجاوز مرحلة التلقائية التي يمتلكها الأطفال ولم تكن لديه الرغبة في تعلم العربية ليبذل جهداً يمكنه من ذلك، فبقيت لغة أسرته مغلقة أمامه رغم أن الأسرة تتحدث بها أمامه طول الوقت!!!...
حتى الذين تتوفر لديهم الرغبة من الكبار في تعلُّم لغة أجنبية يبقون رغم كل الجهد الذي بذلوه في تعلمها عاجزين عن النطق السليم بها ونحن نشاهد في الفضائيات نماذج من هؤلاء الذين تعلموا اللغة العربية من غير العرب حين تستضيفهم القنوات الفضائية في بعض البرامج أو للتعليق على بعض الأحداث نجدهم يتكلمون العربية بصعوبة شديدة وعُسر بالغ وينطقون الكلمات أحياناً بطريقة تثير الإشفاق أو الضحك. إن هذه الظواهر وظواهر إنسانية أخرى كثيرة تؤكد أن الإنسان كائن تلقائي وأنه لا يمتزج في كيانه ويصبح جزءاً من ذاته إلا ما تشرَّبه تشرباً تلقائياً أو عايشه معايشة حميمة وطويلة...
ومن أوضح الشواهد أيضاً على أن التلقائية هي مفتاح قابليات الإنسان قدرة الأطفال على أن يمتصوا تلقائياً من البيئة اللهجات المميزة كاللهجة اللبنانية أو الخليجية، فاللهجة لا تأتي تعليماً وإنما لا بد أن تطبع تلقائياً. إن الطفل ينطق الكلمات كما ينطقها أهله وهو لم يتلق أي تعليم بذلك وإنما امتصه امتصاصاً تلقائياً فهو لا يكتفي باكتساب اللغة وإنما يمتص اللهجة أيضاً بكل ما تشتمل عليه أحياناً من صعوبة وتعقيد فالطفل اللبناني مثلاً ذو لهجة مختلفة عن الطفل السوداني أو الخليجي وينطق أحدهم تلقائياً اللغة بلهجة أهله وهو في ذلك الأداء التلقائي منساب انسياباً تلقائياً ولو أن سودانياً حاول التحدث باللهجة اللبنانية فسوف لن يستطيع إخفاء سودانيته إلا إذا كان يملك موهبة التمثيل وتمرَّن على ذلك. إن نتاج التعلُّم التلقائي يخالط النفس أما التعلُّم المصطنع فملصق إلصاقاً فينسلخ بعد فترة لا تطول فمن السهل على الطلاب استيعاب وفهم وممارسة ما هو امتداد للبرمجة أما العلوم الطارئة والأفكار الخلاقة ومناهج التفكير الحديثة والتصورات الممحَّصة والأساليب الجديدة فتبقى خارج بنياتهم الذهنية..
ومما يشهد لذلك أيضاً ما نلاحظه من فرق شديد بين انسيابية اللهجة العامية في أوطان العرب على اختلافها وعُسر التحدث باللغة العربية الفصحى على المتعلمين منهم إن ملايين العرب يعانون من هذا الازدواج بين العامية التي امتصوها تلقائياً من البيئة وبين اللغة الفصحى التي يبذلون جهوداً موصولة لكي يتعلموها في المدارس والجامعات كما أنها أيضاً هي أداتهم لتعلُّم العلوم الأخرى والآداب وغير ذلك مما هو من لوازم النجاح المدرسي والجامعي، وعن طريق الفصحى تستمر أيضاً علاقتهم بالمعرفة وبالوظيفة طول أعمارهم ولكنهم رغم كل ذلك إذا أرادوا أن يتحدثوا بها واجهوا صعوبات شديدة وكأنهم يتحدثون لغة أجنبية فلقد تعلَّموها تعلماً ولم يتطبعوا بها تطبعاً وهنا نكون أمام اختلاف نوعي بين طريقتين من طرق التعلُّم، فالتعلُّم التلقائي يصير طبعاً وسليقة أما التعلُّم الاضطراري فيبقى خارج البنية الذهنية فاللغة العربية الفصحى رغم أنها هي لغة العرب جميعاً ويعايشونها طول حياتهم إلا انهم لا يتحدثون بها إلا في الحالات الواجبة فتبقى عصيَّة عليهم وبسبب ذلك يتكرر اللحن من المتعلمين ويكثر خطؤهم في نطق الكلمات فلا تتحول اللغة الفصحى كسليقة تلقائية إلا عند أفراد معدودين من الذين يواصلون القراءة مواصلة حميمة ويعايشون الكتاب معايشة دائمة من ذوي الاهتمام التلقائي بالمعرفة الممحَّصة والعناية المستمرة بها...
إن الإنسان يولد بقابليات فارغة وهي أثناء فراغها تكون متلهفة تلقائياً للمعرفة إنها مفتوحة وفارغة وجاذبة وذات تلهف فطري للامتصاص فتتشبع هذه القابليات تلقائياً بما هو سائد في البيئة التي ينشأ فيها الفرد فبالمعايشة يمتص الطفل اللغة والثقافة بكل ما فيها من طريقة تفكير ومنظومة قيم وعادات فكرية وسلوكية وتفضيلات وتحيزات وحب وكُره واهتمامات وتصورات وممنوعات ومسلَّمات وما يكاد يبلغ السنة السادسة من عمره حتى يكون قد تشكل عقله عواطفه وطريقة تفكيره فتتوقف تساؤلاته وتنطفئ لهفته وتمتلئ قابلياته بما امتصته عفوياً من البيئة مهما كان نوع ومستوى المحتوى الذي تشبَّع به الطفل فتنسد تلقائيته ويعيش طول عمره مغتبطاً بما تبرمج به ولا يتقبل بعد ذلك أن يسمع عنه أي نقد ولا يتصور فيه أي نقص وإنما يظل في نظره هو الكمال بعينه والحق المطلق بتمامه إلا في حالات استثنائية عند أفراد قلائل...
إن المجتمعات كلها تعاني من هذه المعضلة لكن الإعضال يشتد بمقدار انغلاق الثقافة وينفرج نسبياً بمقدار ما يتحقق للثقافة من انفتاح وما يتاح فيها من مواجهة بين الاتجاهات ومن صراع بين الأفكار ومن نقد للمسلَّمات إن هذه الإعاقة العامة ذات التأثير الشديد على الحياة البشرية قد أثارت اهتمام العقول المفكرة فأشبعوها تحليلاً وتعليلاً فهارولد اندرسون يهتم بظاهرة التوقد التلقائي لدى الأطفال كما يلاحظ انطفاء هذا التوقد بعد أن يتجاوزوا مرحلة الطفولة ويعدها معضلة إنسانية كبرى معيقة للحضارة ومعطلة للقدرات الفردية وخافضة لمجموع طاقات كل أمة بمفردها وطاقات الإنسانية بأجمعها فيتساءل بمرارة: «إن الإبداع قوة تسود لدى كل الأطفال تقريباً أما بين الراشدين فهي تنعدم تقريباً والسؤال الذي يفرض نفسه بشدة هو: ما الذي يعتري نمو هذه القوة والطاقة الإنسانية الهائلة فيوقفها في منتصف الطريق؟! هذا هو السؤال وتلك هي معضلة هذا العصر!!!» إن هذا السؤال الأساسي يتكرر طرحه وتنوع الاجابات عليه أما أنا فاعتقد أنني قد توصلت إلى الجواب الذي أعتقد أنه المفتاح العام للطبيعة البشرية فإذا استخدم هذا المفتاح العجيب بكفاءة فسوف يشفي من هذه الإعاقة البشرية الفظيعة الممتدة في الزمان والمكان ويمكن تلخيص هذا الجواب أو الرؤية بأن الإنسان كائن تلقائي وبأن التلقائية هي مفتاح قابلياته ومنبع طاقاته ومخزن قدراته، وأنها المدخل لتعبئته بالمعارف الدقيقة والمهارات العالية والاهتمامات النافعة والتهذيب الراقي لكن الغالب على الناس في كل مكان وفي أي زمان أن هذه القابليات تحتلها في الطفولة الثقافات السائدة غير الممحَّصة فتصبح بسبب هذا التشبع التلقائي غير مستعدة لاستقبال الأفكار الخلاقة المغايرة، ومن هنا جاء الإعضال الإنساني الأكبر لأنه إذا جرى إفساد القابليات الفطرية بتعبئتها تلقائياً بما يطفئها تعطل المفعول الإيجابي للتلقائية فتتحول تلقائية التوقد والانفتاح والتطلع ولهفة المعرفة إلى تلقائية الانطفاء والانغلاق والرفض وتوهم الاكتفاء...
إنه لمن المهم غاية الأهمية أن نتساءل بمنتهى الجدية كيف أن الأطفال يمتصون تلقائياً اللغة وما تحمله من ثقافة، بل ويمتصون اللهجة التي تميز منطقة عن أخرى داخل لغة واحدة بكل الفروق الواضحة الدقيقة بين لهجة وأخرى بل كيف يتعلَّم الأطفال تلقائياً عدداً من اللغات دون قصد منهم وبغير تعليم لهم من آخرين؟ وإنما يحصل ذلك بالمعايشة فقط إذا عاشوا في أسرة أو بيئة مزدوجة اللغة، إن الدارسين لظاهرة سهولة وتلقائية اكتساب الأطفال لأكثر من لغة يوردون قصصاً كافية تؤكد هذه الظاهرة المهمة ومنها قصة ذلك الطفل الذي كان أبوه ألمانياً وأمه فرنسية فامتص تلقائياً من كلام أبيه اللغة الألمانية كما امتص من كلام أمه اللغة الفرنسية «وكان إذا طلب منه أبوه بالألمانية تبليغ أمر لأمه بلَّغها ذلك بالفرنسية بدون أن يشعر بأنه يترجم إلى لغة أخرى» كان يسمع بلغة وينقل المعنى بلغة أخرى بشكل تلقائي وهذا برهان كبير على أن السر يكمن في تلقائية القابليات وفي قدرتها الطبيعية على الامتصاص التلقائي من غير جهد ولا قصد، ولأن التشبع يتحقق تلقائياً فإن الأداء اللغوي يأتي أيضاً انسياباً تلقائياً من دون أن يدرك الطفل أنه يمثل ظاهرة إنسانية مدهشة تقيم الدليل على أن الإنسان كائن تلقائي وأنه لا بد من احترام تلقائيته إذا أريد لقابلياته أن تستجيب وأن تتشبع بأدق المعارف وأعظم المهارات وأرفع الآداب وأعلى الأخلاق...
إن المفتاح الحقيقي لقابليات الإنسان هو التلقائية فهذه القدرة المدهشة على التعلُّم التلقائي ليست خاصة باللغة بعكس ما يشيع تداوله وإنما السر يكمن في طبيعة الإنسان التلقائية، فهو يتعلم بالمعايشة والامتصاص العفوي والاهتمام الذاتي التلقائي، أما إذا أريد تعليمه قصداً فإن هذا التعليم يتصادم مع طبيعته التلقائية فلا تستجيب قابلياته ولا تنفتح أبواب عقله ولا تهش له عواطفه ومن هنا جاء فشل أو تعثر التعليم النظامي أو ضآلة نتائجه قياساً بالأعوام الطويلة التي يمضيها الدارسون فيه، أما حالة الطفل الألماني فهو نموذج لكل الأطفال الذين يعيشون في أسرة مزدوجة اللغة أو في بيئة تتيح لهم أن يتعايشوا تلقائياً في طفولتهم مع عدد من اللغات كما هي حال الأقليات الإثنية، فأطفالهم يمتصون من أسرهم اللغات القومية كما يمتصون من الوسط الاجتماعي اللغة السائدة وهي ظاهرة موجودة في الكثير من المجتمعات، إنني شخصياً أعرف أسرة ينتمي فيها الأب لثقافة وتنتمي الأم لثقافة أخرى ويعيشون في بلد له لغة مختلفة عن كليهما فنشأ الأطفال يتكلمون تلقائياً ثلاث لغات بثلاث لهجات: لغة الأب ولهجته ولغة الأم ولهجتها ولغة البلد الذي نشأوا فيه ولهجته ولكن هؤلاء الأطفال حين يتجاوزون مرحلة الطفولة وقابلياتها التلقائية ويحاولون أن يتعلموا تعلماً مقصوداً لغة رابعة يواجهون عُسراً ولن يكتسبوا السليقة التلقائية إلا بجهود استثنائية واستمرارية كافية، وإلا فسوف تبقى اللغة الجديدة ملصقة إلصاقاً بأذهانهم وليست ذائبة في كيانهم..
إن هذا الفرق النوعي بين تلقائية التعلُّم في الطفولة وأساسية وأهمية واستمرارية محصوله وسيطرته التلقائية الدائمة على العقل والعواطف والاهتمامات مقابل العُسر الشديد في التعليم النظامي وضآلة نتائجه وسرعة نسيانه وزوال أثره. إن هذا الفارق النوعي يفسر أيضاً ظاهرة نفور الكثير من المبدعين من الأجواء المدرسية والتأفف من أساليبها القسرية فقد أظهرت دراسات كثيرة في الشرق والغرب أن الكثير من المبدعين يضيقون بقراءة المقررات المدرسية ضيقاً شديداً ويحملهم هذا الضيق في الكثير من الحالات على ترك الدراسة النظامية وعدم مواصلة التعليم النظامي، ولكن مقابل هذا النفور الخانق من الكتب المقررة وهذا الضيق الشديد بها تجدهم يعشقون المعرفة عشقاً عارماً ويتآلفون مع الكتب التي يختارونها لأنفسهم تألقاً شديداً فيواصلون القراءة بشغف عميق وينكبون على التعلُّم بنهم متجدد ويستمرون ملازمين للكتاب طول حياتهم ولا يصلون إلى مستوى الكفاية أبداً بل كلما أمعنوا في المعرفة زاد شوقهم إلى المزيد منها وتضاعف نهمهم فيها، إنهم يبقون في جوع دائم وظمأ مستمر حتى يفارقوا الحياة. إن جوعهم المعرفي لا يعرف الشبع وظمأهم إلى القراءة لا يصل إلى الارتواء!! إنهم يستطيبون السهر وقد يدفعون النوم عنهم حتى الإجهاد لأنهم لا يطيقون التوقف عن متعة القراءة ولا الانصراف عن مباهج الاكتشاف وقد يبيت واحدهم جائعاً أو يكتفي بغذاء قليل الثمن لأنه يؤثر شراء الكتب على شراء الطعام فتغذية عقله ألزم عنده من تغذية جسده ويكون مندفعاً لإيثار غذاء العقل اندفاعاً تلقائياً، إنهم في عزوفهم عن المدارس ليسوا هاربين عن التعلُّم بل من أجل أن يتفرغوا له فهم بعد تركه يغرقون في القراءة والبحث والتنقيب والاستقصاء، إنهم في الغالب ينهمكون في قراءات جادة ذات عمق شديد ومع كل هذه الجدية والصرامة مع الذات فإنهم بسبب اندفاعهم التلقائي لا يسأمون من مواصلة القراءة ولا يملون من الاستمرار في الاستقصاء والبحث والتأمل بينما يخنقهم الملل حين يقرأون مقررات مدرسية لا تتفق مع ميولهم!! إن السر يكمن في هذا الفارق النوعي بين تلقائية الاندفاع والتجرع الاضطراري فعقل الإنسان ينفتح تلقائياً لما يميل إليه وينغلق عما يحاول أن يرغم نفسه عليه وتتدفق عواطفه لما يعشقه بينما تتلبك وتحرن أمام قبول ما تكرهه أو الذي تتألم منه فالإنسان كائن تلقائي ولا يمكن فتح عقله ولا استمالة عواطفه إلا بالترغيب والإثارة والتشويق واستخدام كل الوسائل الممكنة لإثارة اهتمامه الذاتي التلقائي حتى تنفتح قابلياته تلقائياً وما لم يهتم التعليم بهذه الطبيعة البشرية الأساسية بوصفها المفتاح الذي لا غنى عنه لقابليات الإنسان والمنفذ لتعبئته بالمعارف والمهارات والمثير للاهتمام التلقائي في أعماقه فلن تتحقق النتائج العظيمة المنتظرة وهذا أيضاً هو شأن العمل تجويداً وغزارة إن الذي لا يستمتع بعمله ويحس أنه يحقق به ذاته ويفرض مكانته ويكتسب به احترام نفسه وثقته بها وتقدير الآخرين له فلن يكون منهمكاً فيه ولا متقناً له فضلاً عن بلوغ مرحلة الاختراق والانطلاق خارج النسق السائد وإحراز التجلي والابداع!!!
إن (نل نود ينجز) وهي أستاذة جامعية أمريكية أمضت عمرها في ممارسة التدريس وتقول بأنها قضت في التعليم والأمومة خمسين عاماً وهي تتساءل بحسرة في كتابها (تعليم بلا دموع): «ما سبب أن كثيراً من اللامعين والمبدعين كرهوا المدرسة؟!!» ثم تؤكد بأن هذه الظاهرة باتت واضحة وموثقة وأنه يجب البحث الجاد عن أسبابها والكف عن مواصلة تكرار التبريرات المعتادة فإذا كانت هذه هي حال التعليم في المجتمعات القائمة على صراع الأفكار وتنافس الاتجاهات فكيف تكون حال التعليم في المجتمعات التي تقوم على أحادية الرؤية؟!!!!...
إنها في كتابها تتحدث عن تجربة طويلة في التعليم واهتمام قوي بإخفاقاته فهي خلال تجربتها الطويلة والسخية ومتابعاتها الواسعة والعميقة تؤكد أن التعليم النظامي هو تعليم يجلب التعاسة ويصاحبه الملل وترافقه الدموع أي أن الدارسين يؤدونه بمضض وكراهية ومعاناة مما يحمل القادرين منهم بأن يعتمدوا على أنفسهم فيهربون منه ويتخلون عنه ويندفعون للبحث عن المعرفة الممحصة خارجه ويغرقون في قراءات موصولة وجادة وعميقة ومنتظمة ويجدون في هذا الاندفاع التلقائي والانهماك العفوي متعة العقل وتحصيل العلم وبهجة الحرية وعن هذا تقول (نل نود ينجز): «إن الناس يستمدون القدر الأكبر من سعادتهم من خلال تطوير مواهبهم الفردية وفي العمل الملائم لهم» إن الإنسان يستجيب تلقائياً لميوله ويندفع لرغباته ويجد المتعة فيما يحلو له ويكره أن يرغمه الآخرون إرغاماً على شيء لا يميل إليه تلقائياً وإذا اضطر إلى ذلك، فإنه يعاني من انسداد القابليات وعُسر الفهم وتلبك الذاكرة وضياع الوقت وتبدُّد الطاقة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.