ترامب يوبخ جيروم باول ويدعو مجددًا لخفض الفائدة    الاتحاد الأوروبي وبريطانيا يفرضان عقوبات على نفط روسيا    الهلال يدخل سباق التعاقد مع مهاجم نيوكاسل    ضبط 4 إثيوبيين في جازان لتهريبهم 33 كجم "حشيش"    سعوديات يسجلن حضورًا تاريخيًا في نهائيات كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025    للمسؤول … طريق لزمة – الوهابة في انتظار كاميرات ساهر والإنارة    توزيع (3.255) سلة غذائية في عدة مناطق بباكستان    "وِرث" و"السودة للتطوير" تطلقان برنامجًا تدريبيًّا لفن القط العسيري    2000 ريال تكلفة كتابة السيرة الذاتية للباحثين عن عمل    موعد مشاركة رونالدو وسيماكان في تدريبات النصر    النصر يتفوق في سباق ضم لاعب أوروبي    1.9 مليون مصلٍ بالروضة الشريفة وأكثر من 3.4 مليون زائر للنبي صلى الله عليه وسلم    «التعاون الإسلامي» تدين استهداف الكنائس والمقدسات الفلسطينية    المعيقلي: «لا حول ولا قوة إلا بالله» كنز من كنوز الجنة    حسين آل الشيخ: النميمة تفسد الإخاء وتورث العداوة    حساد المتنبي وشاعريته    حملات إعلامية بين «كيد النساء» و«تبعية الأطفال»    ميراث المدينة الأولى    أبعاد الاستشراق المختص بالإسلاميات هامشية مزدوجة    استقرار أسعار النفط    استشهاد 10 فلسطينيين في قصف على قطاع غزة    رياح نشطة وطقس حار على معظم مناطق المملكة    "هيئة الطرق": الباحة أرض الضباب.. رحلة صيفية ساحرة تعانق الغيوم عبر شبكة طرق متطورة    الجبل الأسود في جازان.. قمم تعانق الضباب وتجذب الزوار بأجوائها الرائعة    إنقاذ مريضة تسعينية بتقنية متقدمة في مركز صحة القلب بمدينة الملك سعود الطبية    جراحة تنهي معاناة مريضة من آلام مزمنة في الوجه والبلع استمرت لسنوات ب"سعود الطبية"    تجمع مكة الصحي يفعّل خدمة فحص ما قبل الزواج بمركز صحي العوالي    "موسم الرياض" يرعى شراكة بين "لا ليغا" و"ثمانية"    شخصيات الألعاب الإلكترونية.. تجربة تفاعلية لزوار كأس العالم للرياضات الإلكترونية    استعداداً لبطولة كوتيف الدولية..الأخضر تحت 19 عاماً يكسب تشيلي    "المزيني"نسعى لتعزيز الحضور الرياضي للطالب الجامعي السعودي عالمياً    مهند شبير يحول شغفه بالعسل إلى علامة سعودية    معادلة عكسية في زيارة الفعاليات بين الإناث والذكور    نادي الدرعية .. قصة نصف قرن    اختتام أعمال الإجتماع الأول للجان الفرعية ببرنامج الجبيل مدينة صحية    خارطة لزيادة الاهتمام بالكاريكاتير    السعودية: نرفض كافة التدخلات الخارجية في سوريا    جامعة الإمام عبد الرحمن تختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    (إثراء) يعلن عن فوز 4 فرق في المنافسة الوطنية لسباق STEM السعودية    برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية يعلن توطين تقنية «فيچ قارد»    المملكة تعزي العراق قيادة وحكومة وشعبًا في ضحايا «حريق الكوت»    تعليم الطائف يختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي لأكثر من 200 طالب وطالبة    صدور بيان عن السعودية و 10 دول حول تطورات الأحداث في سوريا    أمير منطقة جازان يستقبل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين الجدد    المدينة المنورة تبرز ريادتها في المنتدى السياسي 2025    الأولى عالميا.. التخصصي يزرع جهاز دعم بطيني مزدوج بمساعدة الروبوت    تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بقاتل الدكتور عبد الملك بكر قاضي    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    المفتي يستعرض أعمال "الإفتاء" ومشاريع "ترابط"    20 قتيلاً.. وتصعيد إنساني خطير في غزة.. مجزرة إسرائيلية في خان يونس    ضبط 275 كجم مخدرات والإطاحة ب11 مروجاً    د. باجبير يتلقى التعازي في وفاة ابنة شقيقه    " الأمن العام" يعرف بخطوات إصدار شهادة خلو سوابق    بوتين لا ينوي وقف الحرب.. روسيا تواصل استهداف مدن أوكرانيا    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدرعية: الرمز الحضاري والمسيرة الوطنية
نشر في عناوين يوم 10 - 04 - 2015

الحديث عن أحداث مفصلية أسهمت في تغيير ملامح التاريخ المعاصر لا بد أن يصاحبه حديث عن المكان الذي احتضنها، وأكتب اليوم بمناسبة انطلاق المرحلة الأولى من مشروع تطوير الدرعية، المدينة الوادعة بمحاذاة وادي حنيفة، شريان الحياة الذي تشكلت على ضفتيه أغلب المستوطنات البشرية في قلب الجزيرة العربية. في هذه البلدة تكونت الدولة السعودية الأولى، وانطلقت على يد مؤسسها الإمام محمد بن سعود منذ نحو ثلاثة قرون، لتكون المبادئ الأساسية التي قامت عليها وحدة المملكة، ولا تزال، فتَجَدُّد هذه الدولة لثلاث مرات على ذات القيم والمبادئ التي شكلت هذه البلاد هو الأساس المتين الذي تقوم عليه المملكة في الوقت المعاصر.
في الدرعية كانت بداية الوحدة، ونحن اليوم مع قائد هذه الأمة المباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفيد مؤسس الدولة الأولى وابن مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة الملك عبد العزيز، رحمه الله، نحتفل بإطلاق المرحلة الأولى من مشروع تطوير الدرعية في حي البجيري، الذي ستعقبه مراحل مهمة، أهمُّها افتتاح حي الطريف، موقع التراث العالمي، بعد إعادة تأهيله ليكون مكانًا يعيش فيه المواطنون تاريخ تأسيس وطنهم، خاصة الشباب منهم والزوار، المكان الذي بدأت منه انطلاقة هذه الدولة المباركة المستقرة، التي تبوأت موقعًا في الصدارة بين أمم العالم.
ولخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – حفظه الله – اهتمامات بالتراث الوطني بشكل عام يتعدى اهتمامه بمنطقة الرياض التي كان أميرًا لها لفترة طويلة؛ لذلك فقد حدثت نقلات كبرى في عمل دارة الملك عبد العزيز التي كانت قد تأسست بفكرة رائدة في عهد الملك فيصل عام 1392ه/ 1972م، وعاشت توسعًا في الاهتمام وتأصيلاً في العمل على توثيق ودراسة تاريخنا الوطني بعد تولي الملك سلمان لرئاسة مجلس إدارتها، ونتجت عن ذلك ثقافة التوثيق والدراسة لتاريخنا الوطني عبر مراكز متخصصة في كل مناطق المملكة، كما أن زيارته لمهرجان جدة التاريخية مؤخرًا عندما كان وليًّا للعهد جاءت تأكيدًا لاهتمامه بكل مكان أسهم في تاريخ وحدة هذه البلاد المباركة.
وللملك سلمان علاقة وطيدة بشكل خاص بالدرعية، وبالتاريخ الوطني، والعمق الحضاري لهذه البلاد العريقة بامتداداتها، فإبان توليه إمارة الرياض كان حريصًا، أعزه الله، على إعادة الدرعية للحياة منذ وقت مبكر، بعد أن هجرها سكانها على أثر تدميرها في عام 1233ه، جراء غزو خارجي استهدف الدولة الوليدة وما قامت عليه من قيم ورؤية.
لقد بدأت فكرة تطوير الدرعية في عام 1406ه، وقد تم اقتراح عدد من المشاريع والأفكار منذ ذلك الوقت، إلا أنها لم تحظ بالتنفيذ لأسباب متعددة، حتى تم تشكيل لجنة لتطوير الدرعية عام 1417ه، فبعد حوار مع سيدي الملك سلمان – حفظه الله – أمير الرياض آنذاك، ونحن في السيارة أثناء توجُّهِنا إلى مناسبة في منزل أمير الدرعية (المحافظ) محمد الباهلي، رحمه الله، بحضور عدد من أهالي وأعيان الدرعية، ذكّرته – يحفظه الله – ونحن في الطريق بطموحاته التي سمعتها منه باستعادة الدرعية لدورها التاريخي الرمزي على المستوى الوطني، وعمله الدؤوب خلال السنوات التي سبقت ذلك من أجل تحقيق هذا الهدف، فكلفني – أيده الله – برئاسة لجنة لدراسة تطوير الدرعية التاريخية، اشترك في عضويتها كل من رئيس مركز المشاريع والتخطيط بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، ووكيل وزارة المعارف المساعد للآثار (آنذاك)، ورئيس بلدية الدرعية، وتلت ذلك زيارات متعددة قام بها – حفظه الله – للموقع خلال الأعوام التالية، حتى تشكيل لجنة عليا لتطوير الدرعية بالأمر السامي رقم 528/م وتاريخ 17/6/1419ه برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز، أمير الرياض آنذاك، عملت على تنفيذ مشروع متكامل في إطار برنامج لإحياء الدرعية التاريخية، يهدف إلى استعادة التاريخ وإخراجه من بطون الكتب إلى «معايشة الواقع»، وهذه الخطوة كانت تتطلب نقلة نوعية في التعامل مع هذا الرمز الوطني المهم، والمواقع التاريخية المرتبطة بتاريخ بلادنا العريق، ووحدتنا الوطنية المباركة، والمنتشرة في شتى أصقاع بلادنا الشاسعة.
الدرعية بما تشكله من رمزية وطنية وتاريخية، وما تعنيه للوحدة الوطنية التي انطلقت منها، هي في الوقت ذاته تعبر عن الحضور الإقليمي والدولي للمملكة، فهذه الدولة المحاطة بالتحديات من كل جهة، وذات الحضور الجغرافي والسياسي والإنساني، كما هي حالة الجزيرة العربية عبر التاريخ، تستنهض رموزها الوطنية للوقوف أمام هذه التحديات لتذكّر مواطنيها بأن ثمن الوحدة وجمع الشمل والاستقرار والأمن الوطني غالٍ، ويجب علينا المحافظة عليه وتعزيزه.
على المستوى الشخصي كنت مرتبطًا منذ طفولتي بالدرعية وبوادي حنيفة، فقد كنت أزور المنطقة مع والدي – حفظه الله – وكنت أرى بساطة الحياة والقصور الطينية في المزارع بحي الطريف، العاصمة الأولى للدولة السعودية، فأحدث نفسي في تلك الأيام بأن هذه القصور ستكون لها أهمية كبيرة في المستقبل. وقد كبرت هذه الأفكار معي وصرت أكثر قناعة بعد ذلك بأن تلك المباني الطينية قد تكون الفضاء الأرحب الذي يمكن أن يؤصِّل الانتماء الوطني من خلال معايشة التاريخ، خصوصًا تاريخ الوحدة الوطنية المباركة، وهو النموذج الذي ينطبق على كل بلدة ومبنى يزخر بالتاريخ على امتدادات بلادنا التي يمثل كل شبر فيها قصة عزة وفخر. لقد ازدادت قناعتي بأن الدرعية يجب أن تكون موقعًا مسجلاً ضمن مواقع التراث العالمي، حيث كتبت في ذلك للملك سلمان، أمير منطقة الرياض آنذاك، باقتراح الدرعية كموقع تراث عالمي، وقد عملنا على تحقيق هذا الهدف منذ البداية. فمشروع التطوير كان يشمل «تسجيل الدرعية» كأحد مواقع التراث العالمي في اليونيسكو، والذي تحقق ولله الحمد عام 2010.
لقد كنت أستشرف إمكانية تسجيل حي طريف كموقع تراث عالمي في اليونيسكو، وكنت مؤمنًا بإمكانية حدوث ذلك قبل تأسيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، لأن موقع الحي، والدرعية، الجغرافي على أطراف وادي حنيفة يجعله مكانًا متميزًا، وقربه من مدينة الرياض يجعله أحد المواقع الأساسية التي ستحظى بكثافة الزوار والرواد من المواطنين وغيرهم. كما أنني كنت على قناعة بأن وادي حنيفة سيستعيد دوره التاريخي المهم وحيويته الاجتماعية، وهو ما حدث ولله الحمد بعزم من قائد هذه المسيرة الموفقة الملك سلمان.
ولتحقيق هذا الهدف كان يجب العمل وفق خطة طويلة الأمد، وتشكيل فريق قادر على تشخيص المشاكل ووضع الحلول لها، فقد رفعت إلى أمير الرياض آنذاك (خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أعزه الله)، بتاريخ 28/8/1417ه تقريرًا عن الدرعية أؤكد فيه أن المشروع يعد «من الأمثلة المبكرة التي كانت مرتبطة بمخاوفي من فقداننا جزءًا كبيرًا من تراثنا ومن ثَمَّ خسارتنا للمصدر الأساسي المهم الذي يمكن أن نجدد به شخصية بلادنا المعاصر». وقد تضمن الخطاب تقريرًا حول برنامج تطوير الدرعية أعدته اللجنة التي شكلها، يحفظه الله، لدراسة تطوير الدرعية.
وقد أكد التقرير على أن «برنامج التطوير المقترح ليس عبارة عن مجرد ترميم لآثار أو ذكر لمآثر أو حكاية لتاريخ، بل يتعدى ذلك كله ليعبر عن الجذور التاريخية لهذا الكيان من خلال ترسيخ مفهوم الانتماء إلى الدين الإسلامي وبذر روح المواطنة الصحيحة في الناشئة (التربية الوطنية في إطارها العملي)، وربطها بتراثها الحضاري والثقافي، وكذلك تأسيس فكر عمراني معاصر مستوحاة أصوله من التراث العمراني». وقد كان التأكيد هنا على مفهوم «الهوية والتعليم»، أو ما يمكن أن أسميه «التربية المكانية والتاريخية»، بحيث يمكن أن نصنع جيلاً مرتبطًا بوطنه من خلال معايشته لتاريخ وحدة بلاده، والتردد على المواقع التاريخية التي تعود إليها الحياة من جديد.
لقد ركز تطوير الدرعية على مجموعة من الخصائص التي يمكن أن تسهم في تشكيل هوية هذه المدينة المهمة، مثل احتضانها للمنطقة الأثرية في حي الطريف الذي يحتوي على قصر الحكم ومؤسسات الدولة السعودية الأولى، كما أن الدعوة الإصلاحية انطلقت منها إلى باقي أرجاء الجزيرة العربية.
ومع ذلك لم يكن الهدف هو تطوير الدرعية فقط، بل كان من الضروري إيجاد مثال يحتذى لجميع المناطق التاريخية والتراثية في المملكة، فقد أكد تقرير تطوير وإحياء الدرعية على أنه من أجل إيجاد «صيغة للتكامل بين التراث بجميع جوانبه وبين الإنجازات الحضارية التي تعيشها المملكة فإنه يجب الاهتمام بالتراث ورعايته وتطويره وصقله والتعهد بحفظه من الضياع وحمايته من الإهمال. وكذلك رصد المتغيرات السريعة التي واكبت التقدم عالميًّا ومحليًّا وأثر ذلك على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المملكة من خلال منظومة من الأنشطة المتعددة. ولرسم مثال يحتذى وإيجاد تجربة تقتفى في المواقع التاريخية في المناطق المختلفة وكيفية استثمارها»؛ لذلك فقد كان التركيز على إيجاد بيئة عمرانية مستدامة، وتطوير مفهوم الاستثمار في مواقع التراث العمراني، كتوجهات عامة يجب أن تحدد مساراتنا المستقبلية في تعاملنا مع التراث العمراني. والذي أعتقده هو أن هذه الأفكار كانت من الأطروحات المبكرة التي كانت تدعو لاستثمار المواقع التاريخية بدلاً من المحافظة عليها «كمتاحف» فقط. والهدف هنا كان تقديم مثال «حي» يمكننا من تحويل مواقع التراث العمراني في بلادنا إلى مصدر اعتزاز وطني ذي قيمة اقتصادية عالية، ومورد للاستثمار وفرص العمل للمواطنين، وكانت الدرعية هي البداية، فقد دعم، حفظه الله، عندما كان أميرًا للرياض، تأسيس شركة الضيافة التراثية، وكتب شخصيًّا لوزارة التعليم لتسليم المدرسة في حي سمحان الذي يطلق اليوم كأول فندق تراثي استثماري ترعاه هذه الشركة.
من هذا المنطلق اقترح مشروع تطوير الدرعية مجموعة من المشاريع الحيوية، تتضمن مشاريع تطويرية وبرامج ثقافية وتراثية وبيئية وأنشطة اقتصادية وترفيهية. كما تضمن كذلك برنامجًا لدراسة العمارة والبناء بالطين وإنشاء مركز تدريب للحرفيين بحي البجيري يُعنى «بالحرفيين التقليديين في مجال التراث العمراني؛ وذلك لتطوير قدراتهم وتوثيق تجاربهم وخبراتهم، ويعمل على بناء أجيال جديدة منهم وإيجاد فرص وظيفية لهم في مجال تخصصهم». كما أن المشروع أكد على أهمية بناء الهوية الوطنية من خلال تطوير برنامج للتربية الوطنية مرتبط بالمواقع التاريخية التي بناها وسكنها الآباء والأجداد الذين أسهموا في بناء هذا الوطن الشامخ في كل أرجاء بلادنا، بحيث يركز «هذا البرنامج على النواحي الثقافية والتاريخية للمنطقة.. ويمكن أن يتجاوز هذا البرنامج النطاق المحلي بحيث يتم تنفيذ برامج ومهرجانات ثقافية على المستوى الوطني أو العالمي»، وهذا ما تقوم به الهيئة العامة للسياحة والآثار وشركاؤها من مؤسسات الدولة، ومنها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة التعليم، ووزارة الثقافة والإعلام، بالإضافة إلى المجتمعات المحلية في بلادنا العزيزة.
والحقيقة أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالدرعية بقيمتها الرمزية وارتباطها المباشر بالوحدة الوطنية كان لا بد أن تكون مركزًا للإشعاع الديني والحضاري، كونها منطلقًا لهذه الدولة المباركة التي قامت على العقيدة الصافية منذ التقاء الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله، وكنت في عام 1421ه منسقًا للجنة إعادة بناء مسجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانت فكرة إعادة بناء المسجد في حي البجيري إحدى الأفكار المهمة التي استشعرتها في ذلك الوقت من اهتمام الملك سلمان بالدعوة المباركة وما تمثله من عنصر ديني مهم، ورمزية وطنية وثقافية، فتقدمت لمقامه الكريم عام 1419ه بفكرة إنشاء مركز الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدرعية، فوجّه، يحفظه الله، بعقد اجتماع وحلقة نقاش بحضور سماحة المفتي ومعالي رئيس مجلس الشورى (وزير العدل حينها) ومعالي وزير الشؤون الإسلامية وعدد من أسرة آل الشيخ ومعالي أمين عام دارة الملك عبد العزيز، وهو ما تم في نخيل العذيبات بالدرعية مساء الثلاثاء 5/11/1421ه، واجتمع الرأي على استحسان فكرة المؤسسة، فصدر توجيه الملك سلمان، حفظه الله، أمير الرياض آنذاك، إلى محافظ الدرعية بتاريخ 15/8/1421ه، بناء على خطاب رفعته بتاريخ 25/7/1421ه، تضمن نسخة من محضر الاجتماع الثاني للجنة إعادة بناء المسجد، يؤكد فيه تغيير اسمه إلى إنشاء «مركز الشيخ محمد بن عبد الوهاب».
كما أذكر الرؤى السديدة التي يضفيها، يحفظه الله، وما تحمله من عمق فكري، ورمزية في المدلولات، بما يكسب هذا المشروع تفردًا ورصانة في كل جزء منه.. ومنها أنه عند اطلاعه، يحفظه الله، على الأفكار التصميمية لمشروع تطوير الدرعية، والمرتكز على تطوير حي الطريف الذي سكنه الإمام محمد بن سعود، رحمه الله، وحي البجيري الذي كان مقرًّا للشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وجه بإنشاء جسر يربط الحيين يحمل اسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إشارة للترابط بين الدعوة السلفية الصافية التي انتهجها الشيخ والنصرة التي حصلت لها من قبل قائد الدولة الناشئة حينها الإمام محمد بن سعود.
إن هذه التحولات الكبيرة التي حدثت منذ أكثر من عشرين عامًا نجني ثمارها اليوم، فها نحن نحتفي بإطلاق حي البجيري في حلته الجديدة التي ستجعل من الدرعية محطة ثقافية محلية وعالمية، وملاذًا مهمًّا لمن يريد أن يستعيد ذاكرة الوطن المكانية والسياسية. لقد كان الهدف وما زال هو المحافظة على الأمكنة التي تشكلت فيها الوحدة الوطنية المباركة وإحياءها، وفي منطقة الرياض على وجه الخصوص، حيث تبرز مواقف سيدي خادم الحرمين الشريفين، وحرصه كأمير للرياض لفترة من الزمن كانت تتشكل فيها الشخصية العمرانية للرياض على المحافظة على تراث المنطقة العمراني والحضاري.
لقد كنت أستمد هذه الطاقة من والدي قائد هذه الأمة، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، أدام الله عزه، فهو لا ينفك يتكلم عن تاريخ الوطن وتراثه، ولا أتذكر يومًا في حياتي كطفل وشاب ورجل إلا وسمعته يتكلم باعتزاز عن تاريخنا المشرق المجيد. ولا بد هنا من الإشارة إلى اهتمام الملك سلمان الكبير بالرياض كمدينة، وفضاء طبيعي، لذلك فقد تضمنت مشاريع تطوير الرياض الاعتناء بوادي حنيفة وإعادة تطوير وسط الرياض، والمحافظة على مكوناته التاريخية، وهو ما نجنيه اليوم، حيث يشكل وادي حنيفة بكل مكوناته رئة تنفس وعنصرًا بيئيًّا في وسط مدينة الرياض يصعب تكراره في أي مكان في العالم.
في هذه الليلة تعود الدرعية نجمًا في سماء فخرنا، بعد أن اكتملت المرحلة الأولى من مشروع تطويرها، وازدان واديها (وادي حنيفة) بعودة الحياة إليه، فحصل على الجوائز الدولية كأحد أهم مشاريع التأهيل البيئي التي تم إنجازها على مستوى المنطقة والعالم. وأصبحت للمدينة رئة طبيعية قريبة، وصار من الممكن أن تعبر عن إنسانيتها وعن جزء مهم من تراثها الطبيعي والعمراني، وأصبحت لها نافذة يطل منها السكان والزائرون على تاريخ كله شرف وعزة، كما يحتاج إلى فهم عميق لتاريخها وخصائصها العمرانية التاريخية، والكيفية التي نشأت فيها داخل محيطها الطبيعي، والكيفية التي تطورت بها.
واحتفاؤنا الليلة بالدرعية، يتم بحضور قائد البلاد المؤمن بأهمية التاريخ وحتمية العناية بالتراث، وأن التاريخ يجب أن يكون حاضرًا في قلوب المواطنين وإنجازاتهم، وأنه لا مستقبل لأمة لا تولي تاريخها ما يستحق من عناية، وتستمد منه العبر والدروس، وأن ماضينا وتراثنا المجيد منطلق لحاضرنا ومستقبلنا، وأن رؤيته التي تتحقق اليوم في الدرعية ستتبعها قريبًا مشاريع مماثلة في مواقع التاريخ الإسلامي التي أسست الهيئة العامة لها برنامجًا خاصًّا للعناية بها، وكذلك الحال مع مواقع تاريخ الدولة الحديثة والمواقع الأثرية وشواهد العصر القديمة التي تحفظ أهمية موقع بلادنا في التاريخ الإنساني.. وتعد بشائر لانطلاقات أقوى لمشروع خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري الذي سينقل مواقع التراث في كل مدينة وقرية إلى المكان اللائق بها.
ما حدث في الدرعية وما يحدث على مستوى التراث الوطني في أرجاء بلادنا لم يكن ليحدث لولا توفيق الله ودعم قادة هذه البلاد، رحم الله من رحل منهم وأطال في عمر الملك سلمان الذي يعد رجل المرحلة ورائد المحافظة على كل ما يتعلق بالهوية الوطنية، والانطلاق للمستقبل على هدى من الدين الحنيف والتراث العريق الذي يمثل قصة بناء الوطن وتاريخه.
وما تحقق في الدرعية من إعادة ربط للتاريخ بالمكان، وبعث للعلاقة بين القيم والبناء ليكونا وعاء للأنشطة التراثية والثقافية التي تسهم في ربط المواطنين بتاريخهم، واتصالهم بسلسلة القيم.. ما تحقق في الدرعية اليوم سبقه ما أنجزه الملك سلمان من تطوير شامل لمنطقة وسط الرياض بما يليق بعاصمة المملكة العربية السعودية، وفي منطقة الملك عبد العزيز التاريخية، وما سيحصل في أواسط مدن عدة من بلادنا ضمن مشروع كبير تعمل عليه الهيئة مع وزارة الشؤون البلدية والقروية، تضم مرحلته الأولى إعمار أواسط 16 مدينة في مناطق المملكة.
وأخيرًا، لا يمكن ننسى دور أمراء منطقة الرياض ونوابهم في مشروع تطوير الدرعية على وجه الخصوص: الأمير سطام – رحمه الله – الذي تابع هذا المشروع في مراحل مهمة منه، وكانت له بصمة واضحة في مراحل انطلاق تنفيذه، وسانده في ذلك سمو نائبه الأمير محمد بن سعد، وتلاهما سمو الأمير خالد بن بندر، والأمير تركي بن عبد الله، اللذان تابعا المشروع.. والآن يقوم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر، أمير منطقة الرياض المحنك، ببذل جهد كبير على المستوى التنفيذي لتحقيق هذا الهدف الوطني المهم.
سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز
* رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار عضو اللجنة العليا لتطوير الدرعية
نقلا عن "الشرق الأوسط"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.