كان قلب المتنبي عصي على العشق ، متمنع على الوقوع في شراك الهوى . هذا ما يظهره لنا في مقدمات قصائده بغض النظر عن الحقيقة والكذب في حكاية عشقه لأخت سيف الدولة . ولكن ما قاله المتنبي في الهوى لا يقوله إلا عاشق له ملامح تحيرنا في أمره . مواصفات خاصة لعاشق تعترك الحكمة فيه مع علامات الهوى فإذا تغزل أبدع بمزج القوة والضعف والإقبال بالإدبار على مرأى من الحكمة والنظرة العميقة التي تتجاوز في كثير من الأحيان ما قاله شعراء الغزل الذين ضعفوا ورقوا وبكوا وأبكوا وأمالوا الرؤوس طرباً ؛ فغزل المتنبي يدير القلوب والرؤوس تفكراً . لعينيك مايلقى الفؤاد وما لقى وللحب ما يبق مني وما بقى وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق لقد جعل ذروة حلاوة الهوى أن يكون صاحبه غير موقن به فلا يدري متى يجود المحب ومتى يمنع ومتى تؤاتيه الأحداث ومتى تنقلب وكأن الهوى قَدَرٌ نتلقاه وكلنا جهل به فلا نعرف عن تفاصيله شيئاً يذكر ولا نملك الإجابة عن أسئلته. فتانة تلك العيون التي يقدم لها العاشق كل ما يلقاه من ضنى الاشواق وحرقة الفؤاد . ساحرة تلك النظرات التي تذيبه جسداً وروحاً فيقدمهما طواعية للحب وإن كان قبلها لايكثر طَرَق دروب الهوى ولا تشد رحال قلبه إليها فهو عصي عليها متجبر بعقله على قلبه غير نظرة من عمق جفن لحسناء تسقط كل أسلحته وتغير اتجاهات دروبه . وبين الرضا والسخط والقرب والنوى مجال لدمع المقلة المترقرق بأي إبداع لغوي اختصر المتنبي أكثر حالات العشاق دقة وتعقيداً ؟ وأعني ذلك الخوف الذي يتلبس العقول والقلوب من سخط يعرض أو بعد يحل ، ذلك الخوف الذي يجعل قلوبهم مضطربة في كل حين !! فإن تساقوا الرضا شغلهم عنه الخوف من غضب يعقبه ، وإذا جمع بينهم لقاء اقتات الخوف من هنائهم ولحظات سرورهم !! فالمجال مفتوح دائماً ليتغلغل الحزن بين ثنيات الفرح ، ويقف الدمع على أطراف الجفون في تهيئ للمعهود من تغير الأحوال بين عاشقين وكل ما يحيط بهما من عذال وظروف محيطة . ثم يردف الشاعر ذلك البيت بآخر يجاريه في عمق النظرة فيبدع قائلاً : وأحلى الهوى ماشك في الوصل ربه وفي الهجر ، فهو الدهر يرجى ويتقى لقد جعل ذروة حلاوة الهوى أن يكون صاحبه غير موقن به فلا يدري متى يجود المحب ومتى يمنع ومتى تؤاتيه الأحداث ومتى تنقلب وكأن الهوى قَدَرٌ نتلقاه وكلنا جهل به فلانعرف عن تفاصيله شيئاً يذكر ولا نملك الإجابة على أسئلته ، فالشك في الوصل والهجر وأوانهما يبقي الحب حياً يتنامى برجاء الأول واتقاء الثاني فلا يموت ولا يضعف بل إن الشك يكسبه حلاوة لها نكهة الأمل . ومما ختم به الشاعر هذه المقدمه الغزلية قوله : ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم بعثن بكل القتل من كل مشفق أدرن عيوناً حائرات كأنها مركبة أحداقها فوق زئبق عشية يعدونا عن النظر البكا وعن لذة التوديع خوف التفرق ربما لم يوفق المتنبي في تشبيه حيرة نظرات العيون بالزئبق الذي لا يثبت في البيت الثاني ولكن جمال الفكرة لتصوير لحظات الوداع تكسيها بما هو أجمل فالعيون حائرة تتردد نظراتها ولاتكاد تستقر كأنها تقاوم تللك الدموع التي انهمرت أخيراً وحالت بينهما وبين لذة النظر إلى بعضهما في لحظة خاطفة اختلط فيها جمال العين بقوة فعلها الذي يشبه القتل من فرط أثرها على قلب المحب لينافس الخوف في نفسيهما من أن تزل اللحظة بلا وداع قريب خشية ماهو آت من فراق Twitter: @amalaltoaimi