«الغرفة الأولى...» لم تكن تحاول وضع كريم الأساس على وجهها كي يزيدها نضارة فهي موسومة بالجمال في هذه الغرفة ولكنها كانت تحاول إخفاء أثر الكدمات الموشومة على صفحة حياتها مذ تزوجت ذلك الوغد وزجّت بأنوثتها في براثن ظلمه... لملمت حاجياتها وأسدلت خصلة ناعمة على خدها لتخفي ندبة حمراء كانت نتيجة الضرب الذي تعرضت له ليلة البارحة... بعدها غادرت المرايا لتمثل دورها المعتاد في إضحاك الزميلات المعلمات ومشاكستهن خلال هذا الصباح المفعم بالدفء وإدخال السرور الذي تفتقده إلى قلوبهن وكانت وقتها تستعد لاستقبال مشرفة الرياضيات القادمة بلهفة لحضور حصتها الدراسية.. هي متميزة في عملها وبارعة في عطائها ومبدعة في مخرجات التعليم لجيل يتعطش لخبراتها وابتكارها في العرض لكنها لا تملك السيطرة على أعصابها لحظة الغضب وكثيراً ما تتهور في الرد وتفتقد القدرة على الهدوء وبمجرد رؤيتها لسجلّ الانتظار ثارت ثائرتها ورفضت التوقيع على حصة الانتظار المدونة باسمها.. فأرسلت لها وكيلة المدرسة لشؤون المعلمات ورقة صغيرة كتبت فيها: "لم نتعود منك الرفض ولكننا لا نشك أن خلفك وجعاً يعيق خطواتك للعمل.. سأدخل حصة الانتظار نيابة عنك". تركت الورقة وأسرعت إلى الصف ولم تتمالك نفسها حينها فاحتضنت الوكيلة بحرارة وأجهشت بالبكاء فلقد كان هذا الموقف متنفساً لما يشبه البوح ويزيح ثقل الهم الجاثم على الصدر... وبعد أن كفكفت دموعها وأطرقت برأسها إلى الأرض اختارت أن تبقى في الصف وأصرّت أن تتم حصة الانتظار بعطاء مختلف وروح متجددة محبة للعمل. الخلاصة: التعليم هو روح قيادة فاعلة تغمر المعلّمة بالحبّ والرحمة وتمنحها الثقة كي تكون مبدعة قادرة على تجاوز العثرات التي تعيق انعتاقها كفراشة في حقل الوطن عامة وحقل التعليم خاصة... وبالقيادة المبدعة الرحيمة يولد فريق فاعل يلون أفق العلم بالمحبة والعطاء.. «ولو كُنتَ فظاً غليظ القلبِ لانفضّوا من حولك». «الغُرفة الثانية...» كنتُ مضطرة للسفر إلى الرياض وحضور الجلسة الثالثة لفعاليات (شاعرة الوزارة) وهو برنامج أدبي سلّط الضوء على موهبة الشعر لدى معلمات الوطن بغية إبراز شاعرة متميزة توسم بلقب (شاعرة الوزارة) وكان لهذا اللقاء ميزة أسجّل من خلالها إعجابي بالدور الذي اضطلعت به الوزارة حين جمعتنا على مائدة واحدة وجعلتنا نعيش جواً حميمياً راقياً تحكمه المحبة والانفتاح على الآخر بمختلف أطيافه ورؤاه. كنتُ أمثّل الأحساء وكنتُ أحمل على عاتقي همّ التعريف بالنّخلة وانعكاسها على تسامحي وعاطفتي وإنسانيتي فكنتُ أشرح لهن خلال طريقنا إلى خيمة الوزارة في الجنادرية معنى "الطبينة" و "الصرام" و "النبات" وتمر الحويل وأعدد أنواع التمر وأصف طعم تمر الخلاص وأشرح كيف كان والدي يعتزّ بماء العين ويعتبرها ثروة لا تقل قيمة عن البترول... مرت الأيام وأجبرتُ نفسي على العودة من الرياض للأحساء بشكل شبه يومي مراعاة لرضيعي محمد الذي كان في رعاية إحدى الزميلات وانتهت المسابقة ولم (أفز) ولم أحصد (اللقب) كما توقعت ولكنني حصدت قلوب عشرات الحاضرات من جمهور بنات الرياض اللاتي أحببنني وحصدت علاقة ودية مع معلمات جدة ومكة والقصيم والجوف والطائف وحصدتُ احترام قيادات إدارية رفيعة القدر على مقاعد الوزارة وحصدت ثمار انتمائي لأرض تحمّلتُ من أجلها غيابي عن بيتي من أجل إبراز كل مواهبي على أرضها والاعتزاز بانتمائي إليها. وطني النّخيل يضجّ بين شموخها بأسُ الجدودِ وثروةُ الأعمامِ وطني عباءتيَ التي قد دثَّرتْ قيمَ العفافِ وثورةَ الإسلامِ وفي النهاية.... وقبل شهر من كتابة هذا المقال عشتُ هاجس التهميش وتقليل الشأن في غرفة المعلمات مقابل اتهام عابر من قيادتي لا يد لي فيه وتعرضتُ للتهديد مما اضطرني للعودة إلى كل شهادات التقدير التي حصلت عليها في المهرجانات الوطنية والتعليمية لعلي أشفي بها غليل وجع لن يغادر الذاكرة.. الخلاصة: تقدير الكفاءات والمواهب التعليمية ومنحها الحصانة والرعاية التي تقيها من الوقوع في براثن قيادات متعنتة لا تدرك قيمتها فوق هذه الأرض... فالمعلم المتميز هو غيمة حُبلى بالماء لأرض قادرة على إنجاب مئات الأشجار.