الإعلان التجاري في مجتمعنا مجرد محاولة لإغواء المستهلك باقتناء هذا المنتج أو ذاك. إذ لم تخضع تلك المراودات الترغيبية إلى دراسات علمية أو فنية أو أخلاقية أو اجتماعية، لولا مقاربات عابرة من قبل المعنيين بالتسويق. وتلك نتيجة طبيعية لمجتمع استهلاكي يستقبل المنتج وأداة تشغيله وما يحفّ به من إعلانات ترويجية. أما العوالم المنتجة فتزدحم بالدراسات التي تمدد الإعلان التجاري على طاولة التشريح بوجهات نظر متباينة. حيث تثار قضية مسألة كونه علماً أو فناً. وذلك من خلال مقاربات يشترك فيها علماء الاجتماع والأخلاق والجمال. من ذلك المنطلق الاختلافي يبدي جورج دوهاميل قلقه إزاء سلطة الإعلان التجاري الإيحائية. ولا يتردد، بصفته أحد الأخلاقيين، في اتهامه بأنه (مقاولة بديعة للكذب والتبليد). لأنه، برأيه، يفسد ذوق الناس، ويفرض عليهم حاجات زائدة ومزيفة. كما يعتبره بول فاليري أحد أكبر أمراض العصر. فهو يدمر الحواس والقيم. حيث تقف وراءه ذهنيات تجارية تستخدم ذكاءها لبيع أكبر قدر ممكن من منتجاتها. فيما يميل بلاز سوندرار إلى اعتباره- أي الإعلان التجاري- زهرة الحياة المعاصرة. المنذور لتأكيد التفاؤل والفرح. وتسلية العين والذهن. الإعلان التجاري مؤسسة اجتماعية، علاوة على كونه دلالة من دلالات المجتمعات المتطورة. وهو الأمر الذي يفسر تطرُّف الآراء بشأنه. لأنه يقع في المحل الاجتماعي. حيث تبرز اعتراضات الأخلاقيين على ما يؤديه ذلك المنزع من بعث رغبات جديدة في الإنسان فائضة عن حاجته. من خلال إثارة غرائزه. حيث لم يكن لدى المؤسسات الصناعية في البداية من وسيلة سوى اللعب على الذوق والفرادة. إلى أن تم الاستعانة بعلماء نفس واجتماع لاختراق النفس البشرية بمقتضى رؤية علمية. لتوسيع دائرة الجمهور اللاعقلاني من المستهلكين. حيث تجاوزت اللعبة مسألة سك الشعارات الجذابة إلى استجلاب المرجعيات وربط المنتجات الاستهلاكية بقيمها العليا. بموجب معرفة بحثية عميقة بالإنسان. وهكذا استطاع خبراء الإعلان التكيّف مع اللحظة المعاصرة والاستجابة لمتطلباتها. وذلك بالاتكاء على سحرانية الخطاب، التي تتجاوز الإشباعات الفسيولوجية إلى ما ينطمر في النفس البشرية من توق نفسي اجتماعي. حيث صار المستهلك يشتري أماناً إلى جانب المتعة ومتعلقات الأناقة. حيث تمكن مبتكرو حملات الإعلانات من اختراق مخياله وتأجيجه بكل صنوف الملذات والاستيهامات. وكأن الإعلان التجاري صار يتطور بايقاع التطور المنهجي والنظري للعلوم الإنسانية. لأن دراسة المستهلك بكل أبعاده النفسية والجسدية والاجتماعية والثقافية تعني في نهاية المطاف أن الإعلان التجاري صار بشكل تلقائي جزءاً من العلوم التطبيقية. هناك صرامة ودقة منهجية في فحص حاجات وتطلعات المستهلك كإنسان. وهذا ما يؤكده صعود الخط البياني العلمي الجمالي للإعلان التجاري. إذ يقاس نجاح الحملة الإعلانية اليوم بمدى تأثيرها في الناس. بمعنى مدى فاعليتها وقدرتها على استيعاب المنهج النفسي وتحويله بشكل تطبيقي إلى إعلان تجاري قادر على بيع الأوهام. حيث يمتزج الاقتصادي بالاستيهامي بالانتهازي بالنفعي داخل رسالة تختزن متوالية من المثيرات والمرغبات. أي تصنيع سيناريوهات متخيّلة لتطويع المزاج الإنساني واقتياده إلى مدارات انعدام الوزن النفسي والعقلي. الإعلان التجاري إذاً ظاهرة مركبة من الاقتصادي والثقافي والنفسي والاجتماعي. وإن كانت غايته المركزية تجارية صرفة. حيث تشكل كل تلك الفضاءات عوامل إسناد. وهنا لا بد من التفريق بين وسائل الإعلان وغاياته. فهو يؤثر في عمق الظاهرة الاجتماعية ولكنه ينطلق من منصات تجارية وهكذا. وهو الأمر الذي جعل من الإعلان مهنة لا تتبرأ من الشعاراتية الجمالية التي استأنفت بها، بقدر ما تضع تلك الوسيلة الإغوائية البدائية داخل صيرورة كبرى باتت أقرب إلى المنهجية والعلمية. بمعنى أن وظائفية الإعلان التجاري اتخذت أبعاداً مهنية ذات سمة مختبرية، تعتمد الفحص والدقة والبحث والمتابعة والتقنية. لدرجة أنها اقتربت من أفق النظرية. هذه المقاولة التبليدية صارت تجتذب اللغويين والفوتوغرافيين والنفسانيين والاجتماعيين ليحققوا إبداعاً جمالياً تأثيرياً لم يتأت لهم حتى في الجامعات. وكأنهم صاروا من المثقفين العضويين الذين بشر بهم غرامشي. وإن بصورة مقلوبة. حيث تقدمت بحوث الإعلان التجاري على دراسات العلوم الاجتماعية. وذلك من خلال تأسيس ثقافة إعلانية قادرة على تشخيص الدوافع، وقراءة هواجس الأفراد والجماعات، والتمييز العلمي للفروقات الدينية والنفسية والمذهبية للمجتمعات، والاقتراب من نبض الإنسان الجديد وأنماط تفكيره ومعاشه، وعلاقته بجسمه الاجتماعي، والعبث بمعادلات الكم والنوع، وإعادة ترتيب معايير الأولويات. حتى وإن لم يكتسب الصفة العلمية فإنه يتحرك داخل أطر ومختبرات على درجة من المنهجية. فهو توليفة من مخيال الحالمين وعلمية الباحثين.