للعيد رائحة فلسطين، الدم والبرتقال، الجليل وحيفا، رام الله وغزة، الزعتر والزيتونات، الدبكة و"ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّ"، الدم والدمعة، القبر وحاضنة المشفى، خزان البارود والغصن المكسور. أطفال يلهون ببنادقهم الخشبية، يستعدون من صغرهم لقدر لم يكن لهم فيه من خيار. أطفال يملأون الشوارع لم أرَ لدى أحدهم لعبة غير البندقية يتسلى بها، بنادقهم مرفوعة، وجباههم لم تحنها أتربة المخيم، لعبتهم "السلاح"، ولكن السؤال يأتي: وهل السلاح لعبة للكبار فضلا عن الصغار ليلهون به، وهل فيه من تسلية!، تسليته الموت. كأن خيار الانتفاضة والبندقية خيار الأطفال قبل الكبار، وكأن إصرار أبو مازن على نزع سلاح المقاومة يقابله تشبث هؤلاء الصبية بها. صبية لم يعرفوا من فلسطين سوى الحلم والرائحة، وحكايا أجداد يتناقلونها مع مفاتيح الأقفال المكحلة بالدم والممزوجة بدمع الأمهات. حكايا فلسطين خرفان الراعي البيض تتقافز ساعة الرقاد. عندما أتى رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس أبو مازن لبنان لم يزر قلب الشتات، ذهب إلى "الرشيدية"، ولم تر عيناه تراب "عين الحلوة". ربما لو زار أبو مازن المخيم ل"قوصه" أحد الصبية ببارودته الخشبية، رغم أن صور الزعيم الجديد تتجاور مع صور "الختيار" في أزقة المخيم، إلا أن أهله غاضبون، أو على الأقل عاتبون بشدة عليه لعدم زيارته لهم، ولم لا يعتبون، ومن على أرضهم انطلقت الثورة، وبين ظهرانيهم ترعرعت "فتح" ونمت، وبسقت، واستوى عودها. "يا عيب الشوم عليك يا بو مازن، ما هيك يكون الزلم"، تقولها عجوز وهي تنفث دخان سيجارتها أمام باب المنزل الذي صدأ بمرور الأيام. ليست بالتجربة القليلة أن تكون في يوم العيد في مخيم عين الحلوة، في القلعة العصية التي عجز الجميع عن كسر شوكتها. أخذت قراري ذلك اليوم. الناس يتجهون إلى "ضيعهم"، والكثير منهم إلى "الداون تاون"، أما مطاعم وكازينوهات الروشة والمنارة التي غصت بالصغار والكبار، فيما "مونو" تعد عدة الليلة الجميلة. رغم كل هذا الحضور البيروتي الجميل، إلا أنني قررت أن أذهب إلى جمال آخر، جمال الفقر والتعتير وأطفال المخيمات والشوراع، والمشي في "الزواريب" الضيقة. تلك الزواريب المتخمة برائحة عفن مياه "المجاري" و"الصرف الصحي"، زواريب لا تكاد تطل عليها الشمس، ولا يصلها الضوء إلا سرقة، عندما تكون الشمس في أوج فتنتها. ربما تنالك رصاصة طائشة، أو تأخذك عبوة ملقاة بذات طريق، فلست تسير في شارع "فاردان"، وعلى الأكيد لن تخطفك صبية لأنك لست في "المعاملتين"، وإنما أنت في عين الحلوة، حيث "أبو محجن" و"جند الشام"، ولذا ربما تخطف بالفعل على "موتسيك" عابر، بدلا من أن تخطف على خصر صبية!، وتلقم لكمة على الفم، بدلا من قبلة عليه!. كل هذا الجو من الخطر المحتمل، لم يكن حاضرا، ما هو حاضر بالفعل كان شهوة الاكتشاف، شهوة شهود هذا المجهول واقتحام هذا الصعب، شهوة الجلوس في مقاهي المخيم، رؤية ناسه، أطفاله، سوقه، حياته، ملعبه الوحيد، أتربته المتطايرة، الشباب المسلح أمام مقارِ الحركات والفصائل، والأهم من كل ذلك تذوق طعم العيد هناك، حيث لا تشابهه نكهة بالعالم. في الأعياد الماضية، كان الجلوس على "السفرة" مع الأهل، والتحلق حول أطباق "المفطح" الدسمة، جزء لا يتجزأ من طقوس العيد. يليه احتساء "فناجين" القهوة، وكاسات الشاي، ليبدأ بعدها التنقل من بيت إلى آخر لزيارات الأهل والأقارب. وفي الليل السهر في أحد المقاهي في الخبر أو البحرين أو الظهران. وأما في هذا العيد، فاقتصر على التحلق حول فناجين القهوة المرة عند "أبو حسن". قهوة مرة بمرارة حال شعب فلسطين. في مقهى الستار بكس يقولون لك : اصنع قهوتك الخاصة كيفما أردت. وأنا هنالك صنعت عيدي الخاص. لم أرد له أن يكون متشابها كباقي أعيادي السالفة. ولم أرد له أن يكون عيدا لبنانيا كله فرح ورقص وهيصة. عندما تتشابه حياتك وباقي الحيوانات فأنت إنسان ميت. وعندما تكون أيامك نسخة من أيام غيرك، فأنت لن تعدو أن تكون مرآة لا أكثر ينعكس عليها الآخرون. ما يميز مخيم عين الحلوة عن سواه من مخيمات الفلسطينيين في الشتات أنه كسر هذه المرآة، رفض أن يكون إلا متفردا، ولذا كان عصيا على التدجين، عصيا على المساومة، عصيا على الموت، مصرا على ألا يشبه أحد خلا، فلسطين.