متسول مر على قصر مشيد كان سيده يطل من النافذة العالية الواسعة التي تنزلق منها أصوات أشبه بزقزقة العصافير، فراح هذا المتسول يمنى نفسه بالأماني الكبار، وهي أن النافذة الباذخة ستمطر عليه سحابة صغيرة من المال، فرفع صوته قائلا: يا صاحب القصر المنيف، يا صحب الأيادي البيضاء وكرم البحار أغدق علي مما رزقك الله. انتظر المتسول، كما يقال: على أحر من الجمر، والأماني ترفرف في قلبه وفى جيبه، بعد فترة سمع سيد القصر يقول: يامبارك قل لمبروك يقول لمبيريك يقول لهذا المتسول: الله يرزقك. استشاط المتسول غضبا، ولكنه تماما مثل غضب الخيل على اللجم، ورفع صوته داعيا: يا الله قل لجبرائيل يقول لميكائيل يقول لإسرافيل يقول لعزرائيل يقبض روح هذا الرجل. قصدي من هذه الحكاية لفت النظر إلى هذا التراتب المستقر في قلوب الناس وسلوكهم تجاه بعضهم البعض، وهي ظاهرة تاريخية موجودة في كل زمان ومكان منذ ولادة الملكية الفردية بين البشر، أي منذ انقسام الناس بين غني وفقير، هذه الملكية التي لم يكفها تقسيم الناس إلى غني وفقير وحسب, بل راحت بحكم قوتها تقسم الناس إلى رجل وامرأة وأسود وأبيض وخاصة وعامة و (موعودين وغلابة). قد يظن أن التراتب في زماننا هذا قد بدأ في الانحسار البطيء في بعض المجتمعات الحضارية المتقدمة، وقد يكون هذا صحيحا نظريا، أما على صعيد السلوك الشعوري واللاشعوري فهو باق لم يتزحزح من مكانه أبدا. "أنا ابن جلا". هذه المقولة، أو هذا الادعاء مستقر استقرار صخرة في السلوك البشري العفوي وغير العفوي، ولم تستطع سيول الثقافة والعلوم المختلفة أن تنسل بعضه من أذهان الناس. إن التراتب الفردي الذي ينحصر في الطاقة الفردية على الإنجاز والعمل والإنتاج والفروق الفردية موجود بالضرورة، ولكن موضوع حديثنا هو التراتب الجماعي الذي ما أنزل الله به من سلطان. حين يقتل فرد امريكي في العراق، على أنه هو المحتل، أو يقتل صهيوني في فلسطين على أنه هو المعتدي الغاصب حين يحدث هذا، لا يصبح القاتل الذي يدافع عن أرضه سفاحا وإرهابيا، بل تصبح الأمة كلها سفاحة وإرهابية أما حين يقتل امريكي أو صهيوني العشرات من العراقيينوالفلسطينيين فهو بطل لأنه تحت المظلة المزورة (مظلة الدفاع عن النفس). هل هناك تضليل وتراتب جماعي لا إنساني أبشع من هذا؟