المملكة تعرب عن ارتياحها حيال إجراءات الحكومة السورية لتحقيق الأمن    هيئة التراث بجازان تستعرض جهودها في حفظ الإرث الثقافي خلال زيارة إعلامية    آل الشيخ يعلن بدء بيع تذاكر نزال كانيلو وكروفورد    خيسوس يصل الرياض لبدء مهمته مع النصر    الأمم المتحدة: الضفة الغربية تشهد أكبر نزوح منذ 1967    البيتكوين يتراجع متأثرا بعمليات جني الأرباح    منشي: نظام الاستثمار الجديد من محفزات جذب الاستثمارات    أمير حائل يتسلّم الرئاسة الفخرية لجمعية "ذرية للإنجاب"    مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضًا عند مستوى (11095) نقطة    مبادرة وطنية تُبصر الأمل: "عيناي" ينقذ آلاف المرضى من مضاعفات السكري    سيرة من ذاكرة جازان.. الدكتور علي محمد عواجي العريشي    التنوع الثقافي يصنع قرارات أقوى ومؤسسات أذكى    الشورى يطالب مركز دعم القرار بتطوير قدراته التحليلية وقياس أثرها    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    نائب وزير الخارجية يلتقي المفوضة الأوروبية لشؤون البحر الأبيض المتوسط    القبض على 12 وافدا لممارستهم الدعارة بنجران    محافظ أبو عريش يرأس اجتماع المجلس المحلي لبحث الاستعدادات لموسم الأمطار    قرار ريال مدريد يُقرب فينيسيوس جونيور من دوري روشن    مفتي عام المملكة يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية النور لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الباحة    إحباط تهريب 16.5 كلجم من الحشيش و6,510 أقراص خاضعة لتنظيم التداول الطبي    استقرار معدل التضخم في السعودية عند 2.3% في يونيو 2025    عودة جديدة .. الفتح يبدأ تدريباته بقيادة قوميز استعدادًا لموسم أقوى بدوري روشن    معرض "فنون تحكي قصص" يجسّد التراث السعودي في المدينة المنورة    الهلال.. ريادة تتجاوز الميدان إلى ضمير الإنسانية    في ختام الأسبوع الأول من منافسات كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025.. فريق VK Gaming يتوج بلقب لعبة Apex Legends    عرض صخرة مريخية للبيع    "اعتدال و تليجرام" يزيلان 30 مليون مادة متطرفة    عراقجي: لن نقايض قدراتنا العسكرية.. طهران تستعد ل«رد مناسب» على آلية الزناد    تصاعد الخلافات حول خطة إسرائيل المستقبلية في غزة.. ساعات «حاسمة» ونتنياهو يلوح باستئناف الحرب    موجة حر قاتلة بإسبانيا    بدء التسجيل لاختبار القدرة المعرفية الورقي    أمانة جدة تباشر 167 حالة إنقاذ على الشواطئ    منصة القبول الموحد.. تحديات الواقع وحلول مقترحة لتحسين التجربة    "سدايا" تعزز الحراك التنموي بتقنيات الذكاء الاصطناعي    السعودية تدعم التعاون الدولي لمواجهة التهديدات السيبرانية    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    4.2 مليار ريال استثمارات صناعية جديدة    الإناث يتفوقن كما ونوعا بمعرض تشكيلي    أشرف عبد الباقي يصور«السادة الأفاضل»    مريضة سرطان تفتتح مقهى لتوظيف أصحاب الهمم    يا فرصة ضائعة    اليابان وأوروبا تطوران شبكة أقمار صناعية    استقبل وفداً من هيئة الأمر بالمعروف.. المفتي يثني على جهود«نعمر المساجد»    عقب تتويج تشيلسي باللقب.. مونديال الأندية بلغة الأرقام    سماعات الرأس تهدد سمع الشباب    نصائح طبية لتقليل التعرق    فوائد الخبز الصحية يوميا    الربو وفسيولوجيا التنفس عند الحوامل    مدير الأمن العام يزور المديرية العامة للأمن الوطني في الجزائر ويبحث سبل تعزيز التعاون الأمني الثنائي    تشغيل 10 مشاريع طاقة متجددة خلال عام    محمد بن عبدالرحمن يستقبل نائب أمير جازان وسفير عمان    رواد التأثير والسيرة الحسنة    لتعريف الزوار ب«الأثرية».. جولات إثرائية لإبراز المواقع التاريخية بمكة    تدشين الخطة الإستراتيجية "المطورة" لرابطة العالم الإسلامي    أمير الشرقية يستقبل سفير جورجيا    أمير منطقة جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    هنا السعودية حيث تصاغ الأحلام وتروى الإنجازات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهمي هويدي
نشر في اليوم يوم 20 - 07 - 2004

آخر ما توقعت أن يتحول الاجتماع لإعلان ميلاد اتحاد علماء المسلمين الذي رتب أمر عقده في لندن، إلى حدث مدِّو شغل الرأي العام البريطاني طيلة أربعة أيام بلياليها. ولم تكن تلك هي المفاجأة الوحيدة، لان الصخب الذي افتعلته المجموعة الصهيونية غدا تسويقاً جيداً للفكرة التي أرادوا تلغيمها، ولكن شاء ربك أن ينقلب السحر فيها على الساحر.
(1)
في ذلك الصباح، السابع من شهر يوليو الحالي كان عنوان الصفحة الأولى لصحيفة "الصن" هو: لقد هبط الشر - المملكة المتحدة رحبت بالشيخ الذي يعشق الإرهاب. أما عنوان صحيفة "ديلي اكسبريس" فكان كالتالي: سفير الكراهية دعى إلى بريطانيا - هذا الرجل الشرير يجب أن يمنع من الدخول. أما صحيفتا "التايمز" و "ايفننج ستاندارد" فقد قالتا نفس الكلام بعبارات أخرى اقل فجاجة.
ظاهر الأمر أن المظاهرة العدائية كانت موجهة ضد الشيخ يوسف القرضاوي، الذي اتهمته الصحف البريطانية بثلاث تهم هي: الدفاع عن العمليات الاستشهادية، والحث على قتل الشاذين جنسياً، وتأييد معاقبة النساء بالضرب. وهي ملفات باتت تستنفر أهم قوى الضغط في بريطانيا، والغرب عموماً. فالعمليات الاستشهادية تحولت إلى تأييد للإرهاب وتعبير عن العداء للسامية، وتلك لعمري صارت "أم الكبائر". أما استنكار الشذوذ الجنسي بأي صورة، فقد غدا في آخر الزمان جريمة لا تغتفر. وحكاية ضرب النساء التي اختلطت فيها المبالغة بالالتباس، أصبحت قضية تلوكها ألسنة التجمعات النسوية المتطرفة (الفيمينست - التي عرفها الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنها حركات التمركز حول الأنثى).
كنت اعرف شيئاً عن نفوذ المجموعة اليهودية في إنجلترا، لكن فكرتي كانت ضبابية عن نفوذ الشاذين جنسياً والحركة النسوية المتطرفة هناك. وقد سمعت ممن هم اخبر مني بالشأن البريطاني أن هذه المجموعات الثلاث تعد من أهم قوى الضغط ليس في بريطانيا وحدها، وإنما في الغرب كله. وان قياداتها تخوض منذ سنوات حرباً شرسة لإثبات وجودها وتوسيع مكتسباتها وقمع معارضيها. وقال لي هؤلاء إن توجيه التهم الثلاث إلى الشيخ يوسف القرضاوي قصد به تأليب الرأي العام، واستثارته ضده، باعتبار أن ما نسب إليه يعد عدواناً على "ثوابت" احدث طبعة للحضارة الغربية.
(2)
لم تكن المظاهرة الإعلامية التي لاحت في ذلك الصباح مجرد مصادفة، وإنما الترتيب فيها بدا واضحاً. فقد كان متعذراً افتراض البراءة في صدور الصحف الأربع في يوم واحد حاملة عناوين الاحتجاج والاعتراض، ومتبنية ذات الحجج والاتهامات، كأن رسالة بمضمون واحد وزعت على الجميع، ثم أعطيت لهم إشارة البدء لفتح المعركة في يوم محدد. كما لم تكن مصادفة أن تكون الصحف الأربع تحت سيطرة اليمين الصهيوني. لذلك فرغم أن ثلاث تهم وجهت إلى الشيخ القرضاوي، إلا أن مسألة العمليات الاستشهادية حظيت بأكبر قدر من الضوء والاهتمام. فكان التركيز عليها شديداً، والتذكير بها ملحاً ولافتاً الانتباه إلى أن قوى الضغط ثلاث حقاً، إلا أن المجموعة الصهيونية هي أقوى الأقوياء. عند الظهر تبين أن المظاهرة الإعلامية كانت الطلقة الأولى في الحملة. وعلمنا أن الموضوع أثير في مجلس العموم. حيث قدم زعيم المحافظين المعارض مايكل هاورد استجواباً لرئيس الحكومة ووزير الداخلية حول أسباب السماح للشيخ يوسف القرضاوي بدخول بريطانيا، رغم انه ممنوع من دخول الولايات المتحدة بسبب تأييده "للإرهاب الفلسطيني". وقال هاورد انه لو كان وزيراً للداخلية لما سمح له بالدخول، لان التسامح البريطاني له حدود، ويجب ألا يشمل المعادين للسامية ومؤيدي الإرهابيين. إلى غير ذلك من الاتهامات التي ساقها الرجل بصفته يهودياً متعصباً، وليس باعتباره زعيماً للمعارضة.
وبينما الموضوع مثار في مجلس العموم، كان وفد من ممثلي المجموعة اليهودية متجهاً إلى مكتب المدعي العام، حاملين معهم شكوى تتهم الشيخ القرضاوي بإطلاق تصريحات معادية "للسامية"، تحرض على القتل وتؤيد الإرهابيين. وتزامن ذلك مع رسالة وجهتها النائبة العمالية لويز ايلمان (المعروفة بتأييدها الدائم لإسرائيل) إلى وزير الداخلية ديفيد بلانكيت. ذكرت فيها أن زيارة الشيخ "عمل كريه من شأنه أن يسبب مشاكل أمنية ضخمة"، لأنه يؤيد منفذي العمليات "الانتحارية" من الفلسطينيين. كما يؤيد ضرب "الزوجات غير المطيعات".
كان لهذا الضجيج صداه في وسائل الإعلام الأخرى، فدخلت إلى الحلبة الإذاعة البريطانية وقنوات التليفزيون المختلفة التي فتحت برامجها المسائية لمناقشة الموضوع. واستدعى للمشاركة في المناقشة وزير الدولة للشئون الداخلية المكلف بملف الاقليات، فيونا ماكجارت، ومتحدثة باسم شرطة لندن، والدكتور عزام التميمي ممثلاً للرابطة الإسلامية في لندن (التي استضافت الشيخ). ومن أهم ما قالته السيدة ماكجارت والمتحدثة باسم الداخلية إن منع الشيخ من دخول إنجلترا غير ممكن ما لم يتصرف بطريقة مخالفة للقانون، الذي ينص على أن الأجنبي يمنع من الزيارة إذا كان يشكل تهديداً للأمن الوطني، أو أدى مجيئه إلى إثارة شغب وعنف قد يترتب عليه إلحاق الضرر بالمواطنين البريطانيين. أما إذا كان يحمل أفكارا "بغيضة" غير مقبولة لدى أي عدد من الناس، فلا سبيل إلى منعه أو إبعاده. أما الدكتور التميمي فقد أعطى الشيخ حقه باعتباره مرجعاً للمسلمين من دعاة الاعتدال والتعايش، وله دفاعه المشهود عن الديمقراطية وإدانته المعروفة لأحداث 11 سبتمبر، وقال إن آراءه الفقهية شوهت عمداً من جانب الذين تحاملوا عليه. فهو مثلاً لم يؤيد العمليات الاستشهادية على إطلاقها، ولكنه اعتبرها سلاح الضعيف، وحصر جوازها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في حين أنكر حدوثها في العراق.
(3)
لاحت بوادر المؤامرة في حملة التعبئة المضادة، التي استقبلت الشيخ. ولم تكن تلك البوادر مقصورة على ما نشرته ضده الصحف الأربع الموالية لإسرائيل. وإنما أيدتها الأسئلة التي ألقيت عليه بعد الكلمة التي ألقاها في مقر عمدة لندن، وتحدث فيها عن دور المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يرأسه في تيسير وتشجيع التعايش الإيجابي بين المسلمين وبين المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، كما تحدث عن اختتام اجتماعات المجلس بإعلان مولد أول اتحاد لعلماء المسلمين. وكان الشيخ قد تطرق في مستهل كلمته إلى انه زار لندن عشرات المرات في العقود الثلاثة الأخيرة، مما جعله يستغرب الضجة التي أثيرت من حوله هذه المرة. وما ان انتهى من كلمته حتى سأله أحد الصحفيين عن رأيه في العمليات التي أسماها بالانتحارية الموجهة ضد الإسرائيليين. وكان إلقاء السؤال محاولة لاستدراجه للدخول في معركة خارج موضوع زيارته، ومن ثم فرض جدول أعمال آخر عليه. في الرد عبر الشيخ عن رأيه المعلن في الموضوع، المؤيد للعمليات في حدود معينة، والمتفهم للضرورات التي فرضتها، متمثلة في التصعيد الإسرائيلي المستمر، وإصرارهم على قصف المدنيين الفلسطينيين. وما أن قال هذا الكلام حتى اتخذت المناقشة مساراً آخر. حيث تم تجاهل الموضوع الأصلي الذي تحدث فيه وجاء من اجله. وهيمنت على جو القاعة مسألة العمليات الاستشهادية وتداعياتها. والعلاقة مع اليهود والعداء للسامية.
لفت الأنظار في هذا الصدد أن اثنين من حاخامات اليهود كانا بين الحاضرين، ولانهما ينتميان إلى جماعة "ناطورني كارتا" الرافضة للصهيونية والتي لا تعترف بشرعية إسرائيل. فقد تحدث أحدهما مرحباً بالشيخ القرضاوي، ومعتذراً له عما بدر من بعض اليهود المتعصبين في بريطانيا من اتهامات له واحتجاجات على زيارته.
في اليوم التالي 8/7 تجاهلت الصحف التي قادت الحملة كل ما قاله الشيخ عن زيارته ومهمته، ولم تشر بكلمة إلى حديثه عن التعايش الإيجابي والاحترام المتبادل بين المسلمين وغيرهم، وعادوا إلى إبراز ما قاله عن تأييد العمليات الاستشهادية. واستمرت المعزوفة في وسائل الإعلام الأخرى، حيث رددت أصوات نفر من ممثلي الجالية اليهودية، الذين أضافوا إلى حكاية العداء للسامية تهمة أخرى هي الدعوة إلى تدمير إسرائيل. إزاء الإلحاح على الموضوع في الإعلام ومجلس العموم، فان دائرة الاهتمام به اتسعت، وبدأ كثيرون يتساءلون عن الحقيقة فيه وأعاد التوازن إلى المشهد المعالجة المحايدة التي قدمتها الاذاعة البريطانية للموضوع. كما أن صحيفة "الجارديان" نشرت في يوم واحد (9/7) ثلاثة تعليقات إيجابية عن الشيخ، عرضت لموقفه الفكري المعتدل، ودعوته إلى الوسطية وحملته على التطرف والعنف والإرهاب. ولفتت الانتباه إلى انه عضو في مركز اوكسفورد للدراسات الإسلامية، الذي يرأسه الأمير تشارلز. وانه يتردد سنوياً على بريطانيا. كما أشارت إلى انه زار لندن خمس مرات أثناء الفترة التي كان مايكل هاورد زعيم المحافظين يشغل منصب وزير الداخلية (بين عامي 92 و 95). وهو الذي قال أمام مجلس العموم: ان وزارة الداخلية أخطأت حين سمحت له بدخول البلاد (!). الأمر الذي أحرج الرجل وبين كذبه. وساعد على تحول الأجواء أن وزارة الداخلية وهي تدافع عن قرارها السماح للقرضاوي بالدخول، نفت ضمناً الاتهامات التي وجهت إليه.
أهم من ذلك أن المدعي العام الذي تلقى شكوى زعماء الجالية اليهودية أعلن خلال 24 ساعة انه ليست هناك قضية ضد الدكتور القرضاوي، ولا وجه لإقامة الدعوى عليه. وكان ذلك قراراً مفاجئاً ومثيراً، حيث المعتاد أن يستغرق بحث أمر من ذلك القبيل مدة شهر على الأقل. الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن الحكومة حريصة على احتواء الموضوع بأسرع ما يمكن. وهي التي تم استئذانها من جانب الرابطة الإسلامية قبل دعوة الشيخ، وكان ردها مرحباً وإيجابيا.
(4)
بينما العاصفة مستمرة كان المجلس الأوروبي للإفتاء بأعضائه المقيمين في الغرب والقادمين من العالم العربي منعقداً في الضاحية اللندنية "بدفورد" لمناقشة العديد من الأبحاث التي تناولت مختلف اشكالات الأسرة في المهجر. وفي الوقت ذاته كان الأعضاء المؤسسون لاتحاد علماء المسلمين يتقاطرون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، من اندونيسيا إلى الجزائر، ترقباً للحظة ميلاد الحدث الكبير والمثير. فتلك هي المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة وجود مرجعية للمسلمين، تشمل مختلف مذاهبهم وفرقهم، وفي الوقت ذاته تكون مستقلة وخارجة عن وصاية الأنظمة أو الجماعات. والشمول والاستقلال يمثلان إضافة حقيقية بالغة الأهمية للعمل الإسلامي العام. صحيح أن ثمة مرجعيات متعددة في العالم الإسلامي لها دورها المعتبر، لكن ما جاء ناشطاً منها (مثل المجامع الفقهية) لم يكن جامعاً للهم الإسلامي، وما بدا جامعاً منها كان مشكوكاً في استقلاله، وما كان مستقلاً لم يكن جامعاً.
ورغم أن بعض الرسميين شاركوا في الاجتماع (الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومفتي سلطنة عمان ووزيرا الأوقاف في السودان والكويت) إلا أن هؤلاء حضروا بصفتهم من أهل العلم لا من أهل السلطة. وسجل أحدهم - الدكتور عصام البشير وزير الأوقاف السوداني - انه خلع عباءة السلطة حين دخل إلى مقر الاجتماع.
إلى جانب ذلك، واهم منه في الواقع، أن الاتفاق كان منعقداً بين الجميع على أن الاتحاد الجديد ليس بديلاً عن المرجعيات والمجامع الأخرى الموجودة في بعض الأقطار العربية، ولكنه مكمل لها بفضائه الأوسع، سواء من حيث نوعية المشاركين أو حرية الحركة. غير أن هذه الإشارة لم تستقبل على نحو إيجابي من جانب بعض المجامع التي لم يستوعب مسئولوها فكرة الخروج على "الوصاية". ومن أسف أن ذلك أوقع بعض العلماء من أعضائها في الحرج، وحال دون مشاركتهم في الاجتماع التأسيسي للاتحاد. إلا أن ذلك عد سحابة عابرة سرعان ما تنقشع من خلال الممارسة، حينما يزول الالتباس وتتعزز الثقة المتبادلة. ورغم ذلك فان الأغلبية الساحقة من الأقطار الإسلامية كانت ممثلة في اللقاء الذي تم في 11/7، وحضره حوالي 200 شخص من علماء المسلمين، السنة فيهم والشيعة، واباضية عمان وزيود اليمن، الأمر الذي وفر للاجتماع عنصر تمثيل الأمة الإسلامية بصورة نسبية. خصوصاً أن الحاضرين لم يكونوا يمثلون الأقطار الإسلامية وحسب، وإنما كان منهم أيضاً من جاء ممثلاً للاقليات الإسلامية حيث وجدت.
لماذا الاتحاد؟ ولماذا لندن؟
في افتتاح الاجتماع التأسيسي رد الشيخ يوسف القرضاوي، صاحب الفكرة الذي انتخب رئيساً للاتحاد، على السؤال الأول قائلاً أن كل أصحاب الديانات والكيانات السياسية لهم أطرهم المرجعية باستثناء المسلمين. وبسبب تشتت المرجعيات والوصايات المفروضة عليها فان المسلمين فقدوا الثقة في كثير منها، بل وتصدى للفتوى والحديث عن الإسلام وباسمه كثيرون من غير ذوي الصفة، فأساءوا إلى الإسلام وشوهوا صورته على النحو الذي يعرفه الجميع. ومن ثم بات من الضروري تشكيل مرجعية مستقلة تستعيد ثقة المسلمين، وتكون تعبيراً صادقاً عن وسطية الإسلام واعتداله. حيث يرجى أن يكون لتلك المرجعية صوت في مختلف القضايا التي تهم المسلمين، والتي تتجاوز الأمور الفقهية إلى توحيد صفوفهم والتعبير عن آمالهم والحفاظ على هويتهم الثقافية والحضارية.
أما لماذا لندن فلعدة أسباب أولها وأهمها أن عقبات حالت دون عقد الاجتماع في ست دول عربية وإسلامية فوتحت في الأمر واعتذرت عن الاستجابة لأسباب مختلفة ومفهومة. وثانيها أن الرابطة الإسلامية في إنجلترا عرضت استضافة اللقاء، وتولت من جانبها عبء وترتيب أمر عقده. وثالثها أن أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء كانوا من بين الأعضاء المؤسسين، وكانوا موجودين لدورتهم العادية في لندن، ورؤي أن ذلك سوف ييسر التحاقهم بالاجتماع التأسيسي. وكانت تلك التيسيرات عنصراً مشجعاً على عقد المؤتمر في العاصمة البريطانية، ومساعداً على تحقيق المراد منه. وقد فهمت أن لندن اعتبرت ممراً للاتحاد وليست مقراً له، لان أمانته العامة التي تباشر العمل الكبير المنوط بلجانه المختلفة ستكون بيروت.
(5)
استرعى انتباهي في المشهد أن أعضاء الرابطة الإسلامية في إنجلترا كانوا من اشد المتحمسين للفكرة. ولم استغرب ذلك بعدما استمعت إلى آرائهم وتعرفت على نشاطاتهم، التي فسرت لي ذلك الحماس. فقد اكتشفت انهم قرروا بدورهم أن يتجاوزوا التجمعات القطرية والمذهبية وان يشكلوا مظلة جامعة (مرجعية سياسية إن شئت الدقة) تمكن المسلمين من المشاركة بأصواتهم في الانتخابات العامة، مستفيدين من عاملين، أولهما الشعور بالتضامن الذي ساد بينهم بعد أحداث 11 سبتمبر، وثانيهما ثقل أصوات المسلمين الذين يحملون الجنسية البريطانية، حيث تبين لهم مثلاً أن أصوات المسلمين إذا اجتمعت فإنها قادرة على حسم نتائج الانتخابات لصالحهم في 80 دائرة (من بين 560 دائرة انتخابية). وقد تحركوا بالفعل على ذلك الصعيد، ودخلوا في تحالفات مع معارضي غزو العراق والمنظمات الداعية إلى نزع السلاح النووي، ونجحوا في تنظيم مظاهرة خرجت ضد الغزو ضمت اكثر من مليون شخص، ولجأت إليهم الحكومة في سعيها لشرح سياستها الخارجية، كما انهم وقفوا إلى جانب عمدة لندن كين ليفنجستون المتعاطف معهم، وكانت أصواتهم عنصراً رئيسياً في فوزه. وبسبب ذلك فان الحكومة أصبحت تعمل حساباً لهم، كما أن المجموعة الصهيونية أزعجها تحركهم وحضورهم. أثناء المناقشة معهم قال أحد القياديين في الرابطة أن الزوبعة التي أثيرت لم تستهدف الشيخ القرضاوي وحده، ولكنها تضمنت رسالة إلى الرابطة الإسلامية أيضاً. ولائحة الادعاء التي قدمها ممثلو اليهود إلى المدعي العام ضد الشيخ جاءت رداً على الدعوى التي رفعتها الرابطة قبل اكثر من عام ضد شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي، وطالبت فيها بمحاكمته باعتباره مجرم حرب. وقد أدرك الرجل خطورة الاتهامات التي وجهت إليه، فغادر لندن على وجه السرعة قبل فتح التحقيق في الموضوع.
حين استمعت إلى قصة الرابطة ومعاركها، تنبهت إلى أن طريق اتحاد العلماء المسلمين بدوره ليس سهلاً، وانه إذا أراد أن يحقق ما هو معلق عليه من آمال فلن يخلو طريقه من أشواك والغام، لاحت بعض بوادرها في الافق، ونسأل الله ان يكون ما خفي أهوَن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.