نائب أمير عسير: الخطاب الملكي يعكس ثقل المملكة السياسي وتجسيدها للإنسانية    أوقية الذهب تصعد الى 3645.04 دولار    نائب أمير منطقة عسير يتوّج المنتخب السعودي تحت 19 عامًا بكأس الخليج في نسخته الأولى    وزير الداخلية لنظيره القطري: القيادة وجهت بتسخير الإمكانات لدعمكم    أرامكو تصدر صكوكاً دولارية دولية    إسهاماً في تعزيز مسيرة القطاع في السعودية.. برنامج لتأهيل «خبراء المستقبل» في الأمن السيبراني    «الفطرية»: برنامج لمراقبة الشعاب المرجانية    وزير الدفاع لرئيس وزراء قطر: نقف معكم وندين الهجوم الإجرامي السافر    200 شخص اعتقلوا في أول يوم لحكومة لوكورنو.. احتجاجات واسعة في فرنسا    السعودية ترحب وتدعم انتهاج الحلول الدبلوماسية.. اتفاق بين إيران والوكالة الذرية على استئناف التعاون    المملكة تعزي قطر في وفاة أحد منسوبي قوة الأمن الداخلي جراء الاعتداء الإسرائيلي الآثم    إثارة دوري روشن تعود بانطلاق الجولة الثانية.. الاتحاد والهلال يواجهان الفتح والقادسية    هوساوي: أعتز برحلتي الجديدة مع الأهلي    الدليل «ترانسفير ماركت»    أكد أن النجاحات تحققت بفضل التعاون والتكامل.. نائب أمير مكة يطلع على خطط طوارئ الحج    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل رئيس فريق تقييم أداء الجهات الحكومية المشاركة في تنفيذ الخطة العامة للطوارئ    منافسة نسائية في دراما رمضان 2026    معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025.. موروث ثقافي يعزز الأثر الاجتماعي والحراك الاقتصادي    نائب أمير المنطقة الشرقية: الخطاب الملكي الكريم خارطة طريق لمستقبلٍ مشرق    اليوم الوطني.. نبراس للتنمية والأمان    حساب المواطن ثلاثة مليارات ريال لمستفيدي شهر سبتمبر    فيلانويفا يدافع عن قميص الفيحاء    باتشيكو حارساً للفتح    واشنطن تستعد لتحرّك حازم ضد موسكو    سكان غزة.. يرفضون أوامر الإخلاء ومحاولات التهجير    هيئة الشرقية تنظّم "سبل الوقاية من الابتزاز"    الكشافة السعودية تشارك في الجامبوري العالمي    مبادرات جمعية الصم تخدم ثلاثة آلاف مستفيد    العراق: الإفراج عن باحثة مختطفة منذ 2023    الفضلي يستعرض مشروعات المياه    "التعليم" توقع اتفاقية "الروبوت والرياضات اللاسلكية"    «آسان» و«الدارة» يدعمان استدامة التراث السعودي    «سلطان الخيرية» تعزز تعليم العربية في آسيا الوسطى    «الحج والعمرة» تُطلق تحدي «إعاشة ثون»    التأييد الحقيقي    "الشيخوخة الصحية" يلفت أنظار زوار فعالية العلاج الطبيعي بسيهات    إنقاذ حياة مواطنَيْن من تمزّق الحاجز البطيني    2.47 تريليون ريال عقود التمويل الإسلامي    59% يفضلون تحويل الأموال عبر التطبيقات الرقمية    الهجوم الإسرائيلي في قطر يفضح تقاعس واشنطن ويغضب الخليج    هل توقف العقوبات انتهاكات الاحتلال في غزة    المكملات بين الاستخدام الواعي والانزلاق الخفي    مُحافظ الطائف: الخطاب الملكي تجسيد رؤية القيادة لمستقبل المملكة    الأمير فهد بن جلوي توَّج الملاك الفائزين في تاسع أيام المهرجان    تعليم الطائف يعلن بدء استقبال طلبات إعادة شهادة الثانوية لعام 1447    السبع العجاف والسبع السمان: قانون التحول في مسيرة الحياة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " ثمرة تماسك المجتمع تنمية الوطن وازدهاره"    نائب أمير منطقة تبوك يستعرض منجزات وأعمال لجنة تراحم بالمنطقة    ختام بطولات الموسم الثالث من الدوري السعودي للرياضات القتالية الإلكترونية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس وأعضاء جمعية الوقاية من الجريمة "أمان"    البرامج الجامعية القصيرة تمهد لجيل من الكفاءات الصحية الشابة    أمير المدينة يلتقي العلماء والمشاركين في حلقة نقاش "المزارع الوقفية"    أحلام تبدأ بروفاتها المكثفة استعدادًا لحفلها في موسم جدة    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    "التخصصي" يفتتح جناح الأعصاب الذكي    إنتاج أول فيلم رسوم بالذكاء الاصطناعي    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: سلطات الاحتلال تمارس انتهاكات جسيمة ويجب محاسبتها    أهمية إدراج فحص المخدرات والأمراض النفسية قبل الزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفغانستان في مهب الريح
نشر في اليوم يوم 23 - 09 - 2003

صحيح أن أفغانستان أصبحت في المرآة الأمريكية مجرد ورقة في انتخاباتها الرئاسية، لكنها في الأصل شيء مختلف تماماً. هي عالم مضطرب مسكون بعوامل التوجس والإحباط. التي تكاد تسد أفق المستقبل. الأمر الذي يشكك كثيراً في احتمال وقوفه على قدميه في الآجل المنظور. وهو ما لن يخيب آمال أهله المتعبين فحسب، ولكن الشواهد تدل أيضاً على انه سيخيب حتى أمل الذين راهنوا عليه كورقة انتخابية.
(1)
منذ بداية العام الحالي ظهرت في أسواق كابول مجلة شهرية ساخرة باسم" زنبيل غم". والزنبيل كلمة فارسية شاعت في بعض البلاد العربية معناها سلة. ولا أظنها مصادفة، انه بعد 18 شهراً من تحرير أفغانستان من نظام طالبان تصدر في العاصمة الأفغانية مجلة ساخطة على كل شيء، وساخرة من كل شيء، ويكون اسمها سلة غم، ذلك أن قراءة تاريخ الأفكار تعلمنا أنها لا تأتي من فراغ، ولكنها في الأغلب تولد عادة من رحم الواقع فتعكس شيئاً فيه او تعبر عن شوق له. وهو ما عبر عنه أحد مثقفي البشتون قائلاً أن سلة الغم هو عنوان لحال وطن أكثر منه عنوانا لمجلة. غلاف عدد أول أغسطس من المجلة ظهر عليه رسم للرئيس بوش، وقد وقف متحدثاً من على منبر الأمم المتحدة، بينما كانت ساقاه المختفيتان وراء المنصة عبارة عن مطرق ومنجلة (رمز الشيوعية والاتحاد السوفيتي). الصورة جاءت بغير تعليق، ولكن الرسالة فيها واضحة؛ ذلك أن كثيرين يعتبرون الاجتياح الأمريكي لأفغانستان مماثلاً للاحتلال السوفيتي، مع فارق أساسي هو أن السوفييت غزوا أفغانستان في عام 1979م بناء على ترتيب مع بعض قادة الحزب الشيوعي (بابراك كارمل) في حين جاء الأمريكيون في إطار تحالف دولي، ومحتمين بعلم الأمم المتحدة. جرعة الغم الأولى ظهرت على الغلاف، واعادت إلى الأذهان صورة الاحتلال السوفيتي. لكن الجرعات في الداخل طالت مختلف جوانب الحياة، خصوصاً الفساد المالي والأخلاقي. والأول أبطاله كبار موظفي الحكومة وأعضاء الجمعيات الأهلية. والأولون لا ينجزون شيئاً إلا بالرشوة، وتتضخم ثرواتهم حيناً بعد حين. والآخرون يبتلعون لحسابهم الخاص نسبة غير قليلة من المساعدات والمنح التي تأتي من الخارج، وبطونهم كبيرة لا تشبع، كما ذكرت المجلة. أما الفساد الأخلاقي فيركز على مظاهر التغريب والتحلل في العاصمة، خصوصاً تلك التي شاعت بين بعض النساء. في هذا الصدد كتبت المجلة تقول أن النقاب يمثل حلاً امثل للواقع الأفغاني، من حيث أن يخفي وجهه الحقيقي، المليء بالمثالب والكآبة. وإذا ما رفع ذلك النقاب فسوف تحدث الصدمة، وينقلب كل شيء رأساً على عقب. اضافت انه بسبب من ذلك فان خلع النقاب والسفور الذي يدعو إليه البعض، خصوصاً أولئك القادمون من الغرب، ليس من مصلحتهم في شيء. لأنه سوف يتحول إلى سلاح ضدهم، يشهد عليهم وليس لهم. روت المجلة في إحدى صفحاتها أن أفغانيا ضاقت به موارد العيش، فبعث إلى قريب له يعمل في الخارج راجياً منه أن يقرضه حفنة دولارات تساعده على فتح محل تجاري يتعيش منه. فرد عليه قريبه قائلاً انه سيبعث إليه بما يريد، لكنه يشترط عليه أن يؤسس حزباً او ينشئ جمعية أهلية بدلاً من المحل التجاري، لان ربحه من ذلك مضمون بامتياز، في حين أن المحل التجاري بمثابة مغامرة، الكسب فيها قليل، فضلاً عن انه قد يكسب او يخسر. وهو يكرر النصيحة كتب يقول: انك اذا صرت رئيساً لحزب او لجمعية أهلية، فسوف تتدفق عليك الأموال بغير حساب. وسوف تنضم إلى شريحة الأثرياء والطبقة العليا بأسرع مما تتصور. تساءلت المجلة في موضع آخر: لماذا نفرح بالاستقلال والأمريكيون يسيرون البلد على هواهم، ونحن عاجزون لا يد لنا ولا رجل، ولا تتوفر لنا رأس نعتمد عليها، او ريش نطير به؟
(2)
المجلة ترسم بامتياز صورة لحالة الإحباط المخيم. وهو أمر مبرر لان البلد لم يستقر له حال منذ الانقلاب على الملك ظاهر شاه في عام 73، ودخل في دوامة الحرب بعد الغزو السوفيتي في عام 79، ثم تحولت الحرب إلى اقتتال أهلي (بين المجاهدين) عام 92. وانتهى الاقتتال باستيلاء طالبان على السلطة في عام 96، ثم انهيار نظامهم بالاجتياح الأمريكي في أعقاب حوادث سبتمبر 2001. المهم أن حصيلة ذلك كله كانت تدميراً شاملاً للبلاد وإفقارا وإنهاكا للعباد. ولا غرابة والأمر كذلك في أن نصبح في نهاية المطاف بصدد "زنبيل غم" يورث الإحباط بأكثر مما يشع منه الأمل. حيث القدر المتيقن أن الأمر يتطلب وقتاً طويلاً، وجهداً هائلاً حتى يرى بصيص ذلك الأمل. فما بالك به لو انه كان جهداً عادياً، تواصل على مدى اقل من سنتين فقط؟! منذ اسقط نظام طالبان في خريف عام 2001 والناس يسمعون عن "الإعمار" ولا يرونه. صحيح أن فندق كونتننتال الرئيسي والوحيد في كابول قد تم تجديده بواسطة إحدى شركات القطاع الخاص في دبي، وتوفرت له المياه والمصاعد والتيار الكهربائي (الذي ينقطع أربع مرات في اليوم)، وزودت غرفه بمراوح - وذلك إنجاز عظيم - إلا أن الفندق لا هو كابول ولا هو أفغانستان. وسكانه في افضل أحوالهم يظلون من الأجانب الذين لا علاقة لهم بالشعب الأفغاني. ولأنني واحد من الذين سكنوا فيه حين لم يكن متوفراً له شيء مما ذكرت (كان ذلك في عز الشتاء!)، فأنني أستطيع أن المس التقدم الذي طرأ عليه، بحيث انتقل من طور المأوى او اللافندق، وترقى حتى صار فندقاً من نجمتين مع المجاملة، إلا أن شيئاً من ذلك لم يلمسه المواطن الأفغاني في حياته اليومية، التي ما زالت على بؤسها. في اجتماع طوكيو (ديسمبر 2001) وعدت الدول المانحة بتوفير 5.2 مليار دولار لإعادة اعمار أفغانستان خلال الفترة من 2002 وحتى 2006. وهو مبلغ متواضع اذا ما قورن بالمساعدات الدولية التي تقررت لحالات أخرى كان التخريب فيها اقل، فقد كان نصيب الفرد فيما قدم من مساعدات إلى رواندا مثلاً 193 دولاراً، وفي البوسنة كان نصيب الفرد 326 دولاراً، وفي كوسوفا 288 دولاراً، وفي تيمور الشرقية 192 دولاراً، أما في أفغانستان فلم يتجاوز نصيب الفرد 42 دولاراً فقط. وحتى ندرك مدى تفاهة المبلغ الذي خصص لإعادة اعمار أفغانستان، فلا مفر من التذكير بأن تكاليف الاعمار في مؤتمر بون (الذي عقد في بداية عام 2002) قدر تكلفة العملية بمبلغ 23 مليار خلال خمس سنوات، ولكن الرقم المعلن عنه 15 ملياراً. أما مصادر البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي فقد قدرت المبلغ المطلوب بحوالي 10.2 مليار من الدولارات خلال خمس سنوات. ولكن مؤتمر طوكيو لم يستطع أن يدبر اكثر من المبلغ سابق الذكر (5.2 مليار). قال لي السيد الأخضر الإبراهيمي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة أن أفغانستان تلقت حتى أول أغسطس عام 2003 مبلغاً يقترب من ثلاثة مليارات دولار من الدول المانحة، تحت حساب عملية الاعمار. وأضاف الدكتور عبد الله عبد الله وزير الخارجية أن 60% من ذلك المبلغ تتسلمه الجمعيات الأهلية التي تباشر الإشراف على الإعمار. وكان نصيب المشاريع الاعمارية 29% من المبلغ، في حين استحوذت المساعدات الإنسانية على 45% منه. أما الحكومة الأفغانية فهي تتسلم فقط حصة لرواتب الوزراء والموظفين والمصاريف الإدارية الأخرى، وهذه في حدود 16% من قيمة المساعدات. خلاصة كل ذلك أن مسيرة الإعمار تعثرت، ولم يتحقق فيها شيء يذكر، الأمر الذي كان له صداه القوي على صعيدي الاقتصاد والأمن.
(3)
بدا الأفيون هو الحل. إذ وجد الناس في زراعته مصدراً يحل لهم مشكلاتهم الاقتصادية، ويؤمن لهم احتياجاتهم دون كبير عناء. وقد اصبح ذلك خبراً عادياً تسمعه على كل لسان في العاصمة، بل عاد أمراً مقبولاً ومسكوتاً عليه من جانب الحكومة ومختلف المنظمات الدولية العاملة في أفغانستان. وهو ما كان تهمة لوحق بها نظام طالبان وضغط عليه، حتى تم في آخر عهدهم تحريم زراعة الأفيون وتجريم زراعته فضلاً عن تعاطيه. سمعت من البروفيسور برهان الدين رباني أن زراعة الأفيون اتسع نطاقها حتى شملت مناطق لم تعرفها في تاريخها، وهو ما حدث في ولايتي فارياب وبادغيس في الشمال والغرب، كما أنها عممت في ولاية بدخشان الشمالية. وكادت تجارة المخدرات تكتسب شرعية، وتتحول إلى ركيزة للنشاط الاقتصادي، في غيبة الموارد الأخرى. ويلفت النظر في هذا الصدد أن بعض الوكالات الدولية ما زالت تدعو إلى وقف زراعة الأفيون، وتقدم للسكان تعويضات اذا هم اقتلعوا أشجاره وزرعوا محاصيل أخرى. وهو ما كان عنصراً مشجعاً للبعض على اللجوء إلى الإقدام على زراعة المخدرات، لكي يحصلوا على التعويض، ويتوقفون لبعض الوقت ثم يعودون لزراعته مرة أخرى. لقد حاول مرافق لي كان جامعياً ومتعلماً أن يقنعني بالمزايا التي تترتب على زراعة الأفيون، قائلاً أن له أربع مزايا على الأقل، أولها انه يؤمن للناس مصدراً للدخل في ظروف شحت فيها موارد العيش الأخرى، وثانيها انه يوفر لهم ما يحتاجونه من حطب للوقود في الصيف للطبخ وفي الشتاء تضاف التدفئة. ثالثها انهم يستخلصون منه زيتاً يستخدمونه في الطعام، ورابعها أن رماده يستخدم في صناعة صابون يستخدمه الناس. يوافق الأخضر الإبراهيمي على أن مشكلة زراعة الأفيون استفحلت بصورة مؤرقة، لكنه يضيف أن ذلك لن يؤدي إلى زيادة إنتاج الأفيون هذا العام، بسبب خارج عن إرادة الجميع، هو أن المحصول ضربته آفة أثرت على نموه وقللت من إنتاجيته، حتى إشعار آخر على الأقل.
(4)
حين لم يعد للحكومة دور رئيسي في عملية الإعمار، ولا تأثير في الاقتصاد، فان ذلك أرخى من قبضتها وقلص من نفوذها وهيبتها، فانفلت عيار الامن في بلد لا يزال مدججاً بالسلاح. وكان لذلك الانفلات تجلياته خصوصاً في خارج العاصمة. إذ كثرت حوادث السطو والسرقة وقطع الطرق، واهم من ذلك أن حكام الولايات صاروا اكثر استقلالاً، وأحياناً اكثر استعداداً لتحدي الحكومة والتمرد عليها. أما الأخطر فهو أن تلك الأجواء وفرت مناخاً مواتياً لتنشيط وتأمين منسوبي حركة طالبان، بعد أن أصبحت الحركة نقطة جذب للساخطين على الحكومة واليائسين منها، والغاضبين من سيطرة الطاجيك على مقدرات البلاد، وتراجع حظوظ البشتون الذين حكموا البلاد منذ تأسيس الدولة قبل 250 عاماً. تجلى ذلك التنشيط في توسيع نطاق الاشتباك بين عناصر طالبان وبين ممثلي الحكومة والوحدات العسكرية الأمريكية، خصوصاً في الولايات الجنوبية (زابل مثلاً) المتاخمة للحدود مع باكستان.
بسبب هشاشة وضع الحكومة، فان إحدى أولوياتها الراهنة هي كيف تبسط سلطانها على الأقاليم، بحيث تمد نفوذها من كابولستان (الاشتقاق من العاصمة الحالية كابول) إلى بقية أنحاء أفغانستان الشقيقة، كما يقول البعض في العاصمة متندرين. من ناحية تحاول الحكومة إقامة جيش وطني وشرطة، وهي العملية الجارية الآن ببطء، تحت إشراف أمريكي وفرنسي. لكن الأهم من ذلك أن الحكومة تريد أن تتخلص من مشكلة استقلال حكام الأقاليم وتفردهم بإداراتها وتحصيل مواردها، بعيداً عن سلطان الحكومة. وهم الذي يستمدون قوتهم من قبائلهم او تاريخهم الجهادي. وابرز هؤلاء إسماعيل خان والي هرات وقائد الفيلق العسكري فيها، وصاحب العلاقات الوثيقة مع ايران. وجول آغا شيرزي والي قندهار وصاحب النفوذ والعلاقات الحميمة مع باكستان، وحاجي دين محمد والي ننجزهار وعاصمته جلال اباد ذات المردود التجاري الكبير، والقائدان الجنرالان عبد الرشيد دوستم الاوزبكي وعطا محمد الطاجيكي في الشمال الأفغاني.
في محاولة للحد من نفوذ هؤلاء القادة والولاة اجتمع مجلس الامن القومي الأفغاني في شهر مايو الماضي، بحضور اثني عشر والياً يمثلون الولايات الحدودية، وطلع على الناس بقرارات حاسمة منها عدم جواز الجمع بين منصبين مدني وعسكري في الولايات، وعدم سفر الولاة إلى الدول المجاورة إلا بإذن من الحكومة المركزية، ومنع الولاة من توقيع اتفاقيات منفردة مع تلك الدول، ودفع أموال الجمارك كلها إلى الحكومة المركزية، ذلك إضافة إلى قرارات أخرى أريد منها قص أجنحة هؤلاء الزعماء الموالين ظاهراً و المتمردين باطناً. كان إصدار القرارات مهماً، ولكن تنفيذها هو الأهم. وهو ما سعى له الرئيس كرزاي بهدوء وحذر. فبعد شهرين نجح في إقناع والي قندهار بتولي وزارة الإسكان، وعين مكانه وزير الإسكان وهو من رجاله (أكاديمي من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت). في الوقت ذاته أرغم رجل ولاية هرات القوي إسماعيل خان على التخلي عن منصب قائد الفيلق الرابع في ولايته، وعين من جانبه أحد الجنرالات على رأس ذلك الفيلق. وما زالت مساعيه تتحرك ببطء لضمان ولاء بقية حكام الأقاليم للحكومة المركزية، وتلك بدورها مهمة ليست سهلة وتحتاج إلى وقت طويل نسبياً.
(5)
التشققات والتصدعات ليست مقصورة على الولايات البعيدة وحدها، ولكنها ظاهرة للعيان في العاصمة ذاتها، ذلك أنني بعدما أمضيت أسبوعا في كابول هذه المرة، وقابلت كثيرين من القياديين والناشطين والمثقفين، أدركت أن المدينة التي تبدو هادئة على السطح، هي في حقيقة الأمر ساحة تتجاذبها وتتصارع فيها عدة معسكرات متفاوتة القوة. ذلك طبعاً غير اللاعبين الذين يقفون في الظل وفي المقدمة منهم السفيران الأمريكي والبريطاني، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي. أما المعسكرات فعددها سبعة تتفاوت في الأهمية، هي:
معسكر قادة التحالف الشمالي من الطاجيك، الذين كان يقودهم الشهيد احمد شاه مسعود، وهم من عارضوا حركة طالبان وحاربوا نظامها على مدى 5 سنوات على الأقل. وهذا المعسكر يقوده ثلاثة هم الجنرال فهيم نائب الرئيس ووزير الدفاع، ووزير الخارجية الدكتور عبد الله عبد الله، ووزير التعليم (الداخلية سابقاً) يونس قانوني.
معسكر قادة الحركات الجهادية التي حاربت السوفييت، الذي يرمز له البروفيسور رباني والأستاذ عبد رب الرسول سياف وصبغة الله مجددي وآية الله محسني وغيرهم، ولكل من هؤلاء حزبه وجماعته.
معسكر الملك محمد ظاهر شاه، وهو يضم جماعته وبعض أحفاده، الذين يعتبرونه (أبو الأفغان)، ولهم تأييدهم النسبي في أوساط البشتون.
معسكر القيادات الأفغانية التي عادت من الغرب بعد غيبة اكثر من عقدين من الزمان، وهؤلاء لهم حضورهم في السلطة، ويدعون إلى الليبرالية والعلمانية وتقليص دور الإسلام في النظام الأفغاني.
معسكر طالبان، الذي سبقت الإشارة إلى العناصر المكونة له، والتي تراوحت بين بقايا منسوبي الحركة، وبعض المتمردين على الحكومة، إضافة إلى قطاعات البشتون الرافضين لهيمنة الطاجيك.
معسكر الشيوعيين من بقايا مرحلة الانقلاب على الملكية والحكم الموالي للسوفييت، وهو يضم عدداً من الجنرالات والقياديين السابقين، الذين تقدموا لإنشاء حزب باسم "الاتحاد القومي"، ووافق لهم الرئيس كرزاي على ذلك، الأمر الذي أثار اعتراض العلماء والمجاهدين.
هؤلاء يتصارعون على الحاضر والمستقبل الأفغاني، وسط الأجواء المخيمة على البلاد، التي توحي بأن أفغانستان خرجت من نفق طالبان ودخلت في نفق آخر لا تعرف له نهاية، ولا يكاد يرى في آفاقه ضوء يذكر. الأمر الذي يضع كل المراهنات على الاستقرار والنموذج فيها في مهب الريح.
ترى. لو أن المراهنة الامريكية على ورقة افغانستان في الانتخابات الرئاسية لم تنجح، فهل يمكن ان تبحث واشنطون عن ورقة اخرى بديلة، في سوريا او ايران مثلاً؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.