تسجل التجارب الانسانية في كل حقل مهني تجاوزات واخطاء تمثل في نهاية الأمر دروسا مستفادة لمن يعتبر ويحرص على ان يتعلم من الاخطاء كما يتعلم من اصول وفنون المهنة, وحفظ لنا تاريخ العلم انجازات رائعة افادت البشرية منها كثيرا, واسهمت في تطور ودفع التجارب العلمية الى ما نستمتع به اليوم من منجز حضاري شكل نقلة في حياة الانسان على الارض.. كثير جدا من تلك المنجزات والنجاحات قامت على تجارب سجلت فشلا واخفاقات مرات عديدة, لكن الفشل في كل مرة كان يقود الى تجربة تتجاوز الخطأ وتعيه بعين باصرة بصيرة, فمعاون اديسون الذي اصيب بالاحباط بعد ان فشلت احدى تجاربهم يقترح على استاذه التخلي عن الهدف بعد ان سجلا في محاولات التجربة فشلا تجاوز المرة الثلاثين, لكن الاستاذ المعلم يجيبه بأننا لم نفشل في تلك المرات السابقة بل تعرفنا على تلك الطرق المتعددة التي لن تقودنا الى غايتنا.. فالخطأ معرفة ومن يتعلم من الخطأ يحقق نجاحات لا تقل عما يتعلمه من اصول المهنة, فكل اصل ينطوي على ان مفارقته تعني الوقوع في الخطأ فمن يتعلم يتعلم الاصل ليلتزمه والخطأ فيه ليتجنبه. في الحقل الطبي على جلاله وبالغ اهميته الخطأ وارد كأي مهنة, ولكن تأثير ذلك الخطأ ليس كأي مهنة فهو يتعلق بحياة الناس وارواحهم ويترتب على الخطأ مستقبل مصائرهم, كلنا قد شهد بعض ضحايا اخطاء الاطباء وهي تتفاوت في فداحة اثرها, منها ما يقود الى الموت, ولعل الموت اهون الاضرار, فالموت قدر لا مفر منه, ولكن ان يختطف المستقبل بأن يتحول المرء من سوي الى معاق اعاقة شديدة تؤثر على مستقبله الاجتماعي والصحي والنفسي فذلك امر يوجع القلب ويستدعي المساءلة, مها طفلة في عمر الورد ذكية حادة الذكاء متفوقة على اترابها في المدرسة الابتدائية لما تتجاوز في عمرها السنة الثامنة, ولكنها كشفت عن قدرات هائلة في التحصيل وملكة الحفظ والقدرة المبكرة على التحليل رأيت هذه الطفلة في العام الماضي تتلقى علاجا في احدى المصحات خارج المملكة, ادهشني ذكاؤها وما تتميز به من روح عالية تتجاوز سنها العمري, وتتعامل مع اعاقتها بعقلانية لا يصل اليها كثير من الراشدين, ولم أكن ممن يستقصي احوال الناس ولا مسببات عللهم ولكن علاقة حميمة اتصلت بيني وبينها, ولم يكن تعاطف الشفقة فحسب بل كنت اجد فيها وفي أختها المرافقة (احلام) نمطا من الشخصيات الواعدة التي يحقق الحديث معهما اشباعا له طعم يمزج بين متعة الانس الى الطفولة النضرة وتوقد الاعجاب المشوب بالدهشة من هذا الذكاء الفطري الذي تتمع به الصغيرتان, ولم يكن هذا رأيا شخصيا بل وجدت كل من يتعامل مع (مها) ينطق بمثل هذا الرأي, حتى الممرضات اللاتي لا يتقن لغة يتعاملن بها مع الصغيرة غير اللغة الانسانية الاولى في حياة البشرية, وهي لغة الاشارات والايماءات, كان الجميع محبا لها مندهشا لقدراتها العجيبة رغم اعاقتها, هذ الصيف افتقدتها في المصحة وسألت عنها سيدة ممن تطول فترة اقامتها في المصحة, لأنها ترافق صغيرها المريض, فقاد الحديث الى حالة مها, والعلة التي قادتها للمصحة, فأخبرتني السيدة الفاضلة بما يوجع القلب ويشعل الألم, قالت ان مها كانت طبيعية حادة الذكاء لامعة في المدرسة والأسرة يحبها الجميع, وعندما كانت في المرحلة الابتدائية الثانية اكتشف الطبيب ضرورة اجراء عملية جراحية لتعديل شيء في القلب, واثناء العملية تعرضت الطفلة لجلطات بسبب زيادة جرعة التخدير, وهو ما سبب لها هذه الاعاقة التي تؤثر عليها الآن والله وحده يعلم ما سيكون عليه مستقبل الطفلة, نعم حاول والدها مساءلة المستشفى واتخذ الاجراءات تجاه من قام باعطاء جرعة التخدير لكن هذا كله لن يعيد (مها) الى حالتها الطبيعية. مثل هذه الحالات الناتجة عن خطأ طبي اتدرس في كلية الطب حتى يتمكن طالب الطب من تجاوزها مستقبلا ويعي مسببات الخطأ حتى يتلافاه ام ان طول المقررات وكثرتها واهميتها تحول دون دراسة التجارب الحقيقية؟ ان ما تخزنه ذاكرة كل منا من اخطاء الاطباء لو اجتمع لشكل مجلدات فهل يتصدى لهذا طالب طب نابه؟