على مدى عقود طويلة، تشكّلت علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالولاياتالمتحدةالأمريكية بوصفها واحدة من أكثر العلاقات التباسًا في تاريخ التفاعل بين الحركات الأيديولوجية والقوى الكبرى، لم تكن علاقة عداء صريح ولا تحالف مستقر، بل مسارًا متقلبًا تداخلت فيه الشعارات المرتفعة مع الحسابات الباردة، وتجاور فيه الخطاب الثوري مع سلوك سياسي شديد البراغماتية، وعلى امتداد هذا المسار، ظلّ كل طرف ينظر إلى الآخر بوصفه أداة محتملة أكثر منه شريكًا موثوقًا. بنت الجماعة سرديتها على فكرة العداء للاستعمار الغربي، وقدّمت نفسها، منذ نشأتها، كحركة مقاومة لمشروع الهيمنة الأجنبية، لم يكن هذا الخطاب مجرد موقف سياسي، بل أداة تعبئة مركزية لصناعة الهوية، وترسيخ ثنائية صلبة ترى العالم من منظور «نحن» في مواجهة «هم»، غير أن هذا الوجه العلني، بكل ما يحمله من شحنة عاطفية، لم يكن سوى طبقة واحدة من بنية أكثر تعقيدًا. ففي العمق، تشكّل نمط مختلف من السلوك، أقل ضجيجًا وأكثر حسابًا، يقوم على التواصل مع القوى الغربية متى اقتضت المصلحة ذلك، وعلى البحث عن مساحات نفوذ داخل دوائر القرار الدولية. لم تكن هذه الازدواجية طارئة أو ارتجالية، بل تحوّلت مع الزمن إلى منهج ثابت: خطاب تعبوي موجّه للجماهير، وممارسة سياسية نخبويّة تُدار بعيدًا عن الأضواء، وقد التقطت واشنطن مبكرًا هذا التناقض، لا بوصفه عيبًا بالضرورة، بل باعتباره فرصة قابلة للتوظيف. ففي أواخر الأربعينيات، ومع تصاعد الحرب الباردة، أدرك حسن البنا أن الموقف الأمريكي من الشيوعية سيكون محددًا رئيسيًا لشبكة التحالفات الدولية، ومن هنا جاء اقتراحه بإنشاء تعاون مباشر مع السفارة الأمريكية في القاهرة لمواجهة النشاط الشيوعي، في خطوة كشفت مبكرًا استعداد الجماعة لتحويل خطابها الأيديولوجي إلى أداة عملية في لعبة المصالح الكبرى. شهدت الخمسينيات تعمّق هذا المسار، خاصة بعد الصدام العنيف بين الجماعة ونظام جمال عبد الناصر، بعد حادثة المنشية ومحاولة اغتياله، ومع هجرة أعداد من الإخوان إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا، بدأت مرحلة جديدة من إعادة التمركز، نشأت تنظيمات طلابية ثم جمعيات إسلامية ذات طابع قانوني، شكّلت واجهة علنية للنشاط، بينما حافظت هياكل داخلية أكثر انضباطًا على الارتباط التنظيمي والفكري بالمركز الأم، وفي هذا السياق، برزت شخصيات محورية، مثل سعيد رمضان، الذي لعب دورًا أساسيًا في تأسيس مراكز في أوروبا، في تداخل واضح بين النشاط الدعوي والحسابات الجيوسياسية المرتبطة بمواجهة النفوذ السوفيتي. بلغ هذا التعاون ذروته خلال الحرب الأفغانية في الثمانينيات، حين تحوّلت الجماعة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى شريك فعّال في معركة دولية كبرى، لم يقتصر الدور على الدعم المعنوي أو اللوجستي، بل شمل تجنيد المقاتلين، وتنسيق التحركات، وبناء شبكات عابرة للحدود، وفّرت للجماعة موارد مالية ضخمة وخبرة تنظيمية متقدمة، لكنها في الوقت نفسه زرعت بذور إشكاليات لاحقة، حين خرجت من هذا السياق حركات أكثر عنفًا وتطرفًا. بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، أعادت الجماعة تقديم نفسها للغرب بوصفها «الإسلام المعتدل» القادر على احتواء التطرف، عقدت لقاءات، وقدّمت تطمينات، وطوّرت خطابًا جديدًا يركز على الحقوق المدنية والتعددية والديمقراطية، غير أن هذا التحول ظل، في نظر كثير من دوائر البحث والأمن، تغييرًا في اللغة أكثر منه مراجعة فكرية جذرية. فقد استمر النموذج المزدوج: واجهة قانونية منسجمة مع القوانين الغربية، وبنية تنظيمية داخلية تحافظ على الولاء الأيديولوجي العابر للحدود. جاء ماسمي إعلاميا ب" الربيع العربي" ليشكّل اختبارًا حاسمًا لهذا الرهان المتبادل، بدا في لحظة ما أن واشنطن مستعدة لمنح الجماعة فرصة الحكم، باعتبارها قوة منظمة قادرة على إدارة التحول السياسي. لكن التجربة القصيرة كشفت سريعًا فجوة عميقة بين الخطاب والممارسة، ظهر ضعف الخبرة، وتقدّم منطق التنظيم على منطق الدولة. في هذا السياق، جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تصنيف جماعة الإخوان المسلمين «منظمة إرهابية أجنبية» تتويجًا لتحول متدرج داخل دوائر القرار الأمريكية، بعد أن تزايدت القناعة بنفوذ الجماعة داخل المجتمع الأمريكي وقدرتها على اختراق بعض مسارات التأثير السياسي والمدني، و عزز هذا التوجهَ ما رافقه من خطوات على مستوى ولايات مثل تكساس، في إشارة واضحة إلى أن المقاربة الأميركية بدأت تتجاوز منطق الاحتواء التقليدي، لتتعامل مع الجماعة بوصفها شبكة تنظيمية عابرة للحدود، قادرة على استغلال انفتاح أنظمة الغرب وآلياته القانونية لخدمة أجندتها الخاصة. ويبرز في هذا السياق عاملان حاسمان: براغماتية الجماعة المفرطة، وقدرتها «الحربائية» على التلوّن وإعادة التموضع وفق تبدّل الظروف والسياقات. تكشف التجربة الممتدة عقود بين واشنطن وجماعة الإخوان المسلمين حقيقة يصعب تجاوزها: التحالفات التي تُبنى على البراغماتية وحدها قد تصمد مرحليًا، لكنها نادرًا ما تنجو حين تصطدم الأيديولوجيا بحدود الدولة ومصالحها الصلبة، فقد سعت الجماعة إلى توظيف الدعم الغربي لتعزيز نفوذها وحضورها وتمددها العابر للحدود، فيما وظّفتها واشنطن أداةً ظرفية في صراعاتها الكبرى، قبل أن يصطدم الطرفان معًا بالحدود الطبيعية لهذه العلاقة. ويبقى الرهان على الحركات الأيديولوجية العابرة للحدود، مهما بدا مغريًا في لحظاته الأولى، رهانًا محفوفًا بالمخاطر، لا تنكشف كلفته الحقيقية إلا حين يصبح التراجع عنه أكثر تعقيدًا من الاستمرار فيه.