في زمن تتدفق فيه المعلومة كما يتدفّق الضوء، لم يعد الوصول إلى المعرفة تحديًا، بل أصبح تنظيمها هو المعركة الحقيقية التي يخوضها الإنسان كل يوم، فالمعرفة في جوهرها نعمة، تُوسّع المدارك وتُنمّي الوعي وتفتح أمام العقل نوافذ لا تُحصى، غير أن هذه النعمة نفسها قد تتحول -إذا فاضت بلا ترتيب- إلى عبءٍ ثقيل يرهق النفس قبل العقل. المشكلة ليست في كثرة المعرفة، بل في كيفية تعاملنا معها، فالعقل البشري لا يخشى المعلومات، ولكنه يخشى الفوضى، وما بين النهم للقراءة، والانغماس في التفاصيل، والركض خلف كل فكرة جديدة، يضيع الإنسان أحيانًا بين ما يريده فعلاً وما يتسلل إليه بلا قصد. إن معرفةً بلا وعي، كخريطة بلا اتجاه؛ تزدحم فيها العلامات، لكنها لا تقود إلى مكان، أما المعرفة حين تُهذّب بالوعي، فإنها تتحول إلى نورٍ هادئ، يهدي الخطى ولا يُربكها، ويُنمّي الحكمة بدل أن يستنزف الطمأنينة. الوعي هو ما يجعلنا نختار، ونُميّز، ونفرز، ونُعيد ترتيب الأشياء داخلنا، هو الذي يُخبرنا متى نقرأ، وماذا نهمل، وما الذي يستحق أن يستقر في الذاكرة، وما يجب أن نتركه خلفنا كي لا تتكدّس أرواحنا بالفائض الذي لا نحتاجه. ولعل أخطر ما يواجهه الإنسان المعاصر ليس قلّة المعرفة، بل تضخّمها بلا معنى، ذلك التضخم الذي يجعل العالم يبدو ضبابيًا رغم وضوح الصورة، ويجعل القلب مثقلاً رغم أن العقل ممتلئ، فالمعرفة إذا لم تُنمِّ الحكمة، تحولت إلى ضجيج داخلي يلاحقنا حيث نمضي. أجمل أشكال المعرفة هي التي تُضيء ولا تُصدر حرائق، والتي تُثري ولا تُرهق، وتلك التي تنحت في داخلنا فهمًا أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا، لذلك لعل المطلوب اليوم ليس أن نعرف أكثر.. بل أن نفهم أكثر، وهكذا، يبقى سر النجاة في هذا العصر بسيطًا وعميقًا: «اجمع من المعرفة ما يرفعك، واترك منها ما يثقلك».. فالوعي ليس في امتلاء الرأس، بل في صفاء القلب واستقامة الفكر.