السلامة والصحة المهنية من الركائز الأساسية لاستدامة المنشآت وجودة بيئات العمل، ولم تعد في المفهوم الحديث مسؤولية قسم أو إدارة محددة، بل أصبحت مسؤولية جماعية وثقافة مؤسسية يشارك فيها الجميع دون استثناء. المنشأة التي تضع عبء المسؤولية بكامله على إدارة السلامة، وتُقصي بقية الإدارات والعاملين من المشاركة، تُعد منشأة ذات نظام تقليدي متأخر يفتقر إلى التكامل المؤسسي، مما يجعلها عرضة للمخاطر التشغيلية والتنظيمية على حد سواء. تعتمد أنظمة السلامة الحديثة على النهج التشاركي الذي يضمن مشاركة جميع الأطراف في كل خطوة من خطوات العملية، بدءًا من الإعداد والتصميم، مرورًا بالتنفيذ والمتابعة، وانتهاءً بالتقييم والتحسين المستمر. هذا النهج يعزز من جودة الإجراءات ويضمن توافقها مع الواقع العملي واحتياجات بيئة العمل. هناك نماذج تطبيقية على المشاركة الفعالة، منها تصاريح العمل (PTW)، يجب أن يشارك في إعدادها ومراجعتها جميع الأطراف المعنية داخل وخارج المنشأة، بدءًا من الجهة الطالبة للتصريح، مرورًا بالمشرفين والفنيين، وصولًا إلى إدارة السلامة. فالتصريح ليس إجراءً شكليًا، بل هو أداة اتصال فاعلة بين جميع الأطراف تضمن فهم المخاطر والسيطرة عليها قبل بدء العمل. والتحقيق في الحوادث يُفترض أن تشترك فيه جميع الإدارات ذات العلاقة (التشغيل، الصيانة، الموارد البشرية، المقاول، القانونية)، وذلك لضمان تحليل شامل للأسباب الجذرية وتحديد الإجراءات التصحيحية والوقائية المناسبة. التحقيق الناجح لا يهدف إلى تحديد المخطئ، بل إلى منع تكرار الخطأ. اجتماعات التوعية اليومية (TBT) تُعدّ أحد أهم أدوات نشر ثقافة السلامة على المستوى الميداني، إذ تتيح للعاملين والمشرفين مناقشة المخاطر اليومية ومراجعة إجراءات الوقاية قبل بدء العمل. أما تحليل المخاطر الوظيفية (JHA/RA) فيفترض أن يتم بمشاركة المشرفين والفنيين والعاملين أنفسهم، لأنهم الأدرى بتفاصيل المهام والمخاطر الفعلية. المشاركة هنا ليست اختيارية، بل شرط لتحقيق تحليل دقيق وواقعي. مؤشر السلامة في المشاريع (PSI) هو انعكاس مباشر لمستوى النضج والثقافة السائدة في المشروع، ولا يمكن رفعه إلا من خلال تعاون الإدارات كافة، بما في ذلك التشغيل والمشتريات والموارد البشرية وإدارة السلامة. تسعى المنشآت الحديثة إلى تطبيق مفهوم إدارة السلامة المتكاملة (Integrated Safety Management)، الذي يقوم على توزيع الأدوار والمسؤوليات وتوحيد الجهود نحو هدف مشترك. أما تحقيق بيئة عمل آمنة ومنتجة ومستدامة، ففي هذا النموذج، تكون إدارة السلامة جهة تنظيمية وداعمة وليست جهة تنفيذية وحيدة، بينما تتحمل كل إدارة مسؤولياتها الخاصة ضمن المنظومة. السلامة مسؤولية الجميع، والمشاركة الفاعلة في إجراءاتها هي المعيار الحقيقي لنضج بيئة العمل. عندما يدرك كل موظف أن دوره أساسي في منظومة الوقاية، تتحول السلامة من إجراءات مكتوبة إلى ثقافة راسخة مستدامة تنعكس على السلوك اليومي والنتائج الميدانية.