كثير من الناس من هم في حاجة إلى من يشد أزرهم ويخلص لهم، وكثير من الناس من هم في حاجة إلى من يعولهم ويوجههم في هذه الحياة. يقول الدكتور طه حسين بك في كتابه: (الفتنة الكبرى)-عثمان -في الفصل الثامن: «وقد يقال إنه - الإسلام - لم يلغ الرق ولم يمنع الناس من إن يملك بعضهم بعضا. ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حق معرفة لا ينكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوى بين الحر والعبد أمام اللّٰه كانت وحدها حدثًا خطيرًا في تاريخ الناس. وحدثًا خطيرًا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب. فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يخلصوا قلوبهم له. والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء. والله قد شرع دينه واحدا لأولئك وهؤلاء. ولم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوا ولحرمه تحريما - فكيف وقد جعل اللّٰه فك الرقبة واعتاق الرقيق من الأمور التي يتنافس فيها المسلون؟» والدكتور طه حسين بك كما نقراً له، فصيح البيان يسخر الألفاظ للمعاني التي يقصدها. والدكتور طه حسين كما نعرفه بحاثة لا يتقيد في بحوثه الأدبية والتاريخية. فهو يضم الكلمات التي يريدها في المواضع التي يريدها. وهو يضفي على الموضوعات التي يناقشها أسلوبه الرائع ويعرضها على أوجه نقده المنطقي فيشك تارة. ويشكك معه قراءة في الأدب والتاريخ. ولكن مشكلة الدكتور طه حسين هي في البحوث الدينية التي يحاول الكتابة فيها. والبحث عنها الفينة بعد الفينة. وذلك لأنها لا تقبل الشك ولا المجاملة فهو يشك ويحاول أن يشكك قراءة في إقرار التشريع الإسلامي للرق. ويجامل الغرب في التشريع الإسلامي، كما جامل أدباءه في الأدب الغربي. فيعتذر للذين يعترضون على إقرار الإسلام للرق بأن اللّٰه شرع دينا واحدًا للسادة والعبيد على السواء. وأن هذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوا ويحرمه تحريمًا فكيف وقد جعل اللّٰه فك الرقبة والعتق من الأمور التى يتنافس فيها المسلمون. والتشريع الإسلامي لا يقبل الشك. ولا يقبل المجاملة. الإسلام قد أقر الرق. وقد شرع له قواعده بحكم صريح لا يقبل التأويل أو التعديل. وليس للحوادث والمحن والخطوب التي لعبت دورها في حوادث الإسلام السياسية أي تأثير على جوهر التشريع الإسلامي وروحه - فسيان كانت هاتيك الحوادث أو لم تكن فالتشريع الإسلامي قد ركزَ على أساس ثابت. وانتهى إلى القمة التي ما بعدها سمو. وليس وراءها تهذيب أو إصلاح أو تحليل أو تحريم.فإذا كان الغرب يحرم الرق فليس هذا يضير الإسلام. وليس في هذا ما يجعلنا نشك في التشريع الإسلامى ونعلله بأنه بداية لها ما بعدها، فلو سارت الأمور في مجراها الطبيعى فالدين الإسلامى قد أقر الرق ما في ذلك شك! ولكنه اشترط له شروطًا أوجبها على السادة جعلت الرقيق في أيدى سادتهم أمانة يحاسبون عليها حسابًا دقيقًا. فهم يحاسبون على ما ملكت أيمانهم من الرقيق إذا ظلموهم ويحاسبون عليهم إذا حرموهم ملاذ الحياة. يحاسبون عليهم إذا أرهقوهم. ويحاسبون عليهم إذا عذبوهم. يحاسبون عليهم إذا لم يطعموهم مما يطعمون. يحاسبون عليهم في كل صغيرة وكبيرة. وفي هذا الدليل الساطع على سمو التشريع الإسلامى. وسمو أغراضه الاجتماعية التى تحقق العدل الاجتماعى بمعناه الكامل. ثم هناك عدا ما جاء عن تشريع الرق وحكمته والأسباب التي أقر الإسلام من أجلها الرق وأباحه - أواصر التعاون التي تتوشج بين السيد والمسود. فكثير من الناس من هم في حاجة إلى من يشد أزرهم ويخلص لهم. وكثير من الناس من هم في حاجة إلى من يعولهم ويوجههم في هذه الحياة. وكم من هؤلاء من استفاد من سادته وأفادهم، فحمل اسمهم وتمتع بمعنويتهم واغتنى من ثروتهم، فكان منهم ومن ذريتهم البارزون في تاريخ الإسلام والمتفوقون في العالم الإسلامي. أين هذا العدل الإسلامي من نظام أمريكا الحديثة الذى يفرق بين الأبيض والأسود؟ فيفرض على هذا قيودًا لا يفرضها على ذلك. ويمنح ذلك حقوقًا يحرمها على هذا؟ بل أين هذا العدل الإسلامى من استعباد أوروبا للأمم وسلبها حريتها؟ لا شك أنه لفرق كبير وبون شاسع. فكما حث الإسلام على تحرير الرقيق وحَرّض على العتق - حث على الصدقة وحرض عليها. ولكن ليس هذا معناه التمهيد للقضاء على الثروة الفردية. وليس من هذا مما يجعل الدكتور طه حسين أو غير الدكتور طه حسين يجامل الشيوعية. فيقول لدعاتها الذين يعترضون على الرأسمالية بأن الحث على الصدقة للصالح المام سوف ينتهي لو سارت أمور المسلمين في مجراها الطبيعي إلى إلغاء الثروة الفردية إلغاء وتحريمها تحريمًا! وكما اشترط الإسلام للرقيق شروطًا. اشترط لتعدد الزوجات شروطًا. ولكن ليس هذا معناه أن نجامل الغرب ونقول معه بعدم تعدد الزوجات وأن الإسلام يحرم تعدد الزوجات تحريمًا أو سارت الأمور في مجراها الطبيعي. وليس من هذا ما يجعلنا نشط في تفسير التشريع الإسلامي كما شط عبد العزيز فهمى باشا ونجامل فيه. إن التشريع الإسلامي لأسمى من أن يشك فيه أو يعتذر عنه أو يجامل بتفسيره تفسيرًا يحرم ما أحله أو يحل ما حرمه. 1948 *مؤرخ وباحث وصحافي سعودي «1909 - 1984».