انسَ أثينا، تلك العجوز الرزينة التي كانت تستحم في مياه التأمل، وتهمس في أذن سقراط: «اعرف نفسك». وودّع ديكارت، الذي ظلّ جالسًا في ركن فرنسيّ بارد يشكّ حتى في وجود المدفأة. وامنح شوبنهاور راحة أبدية من كآبته التي تفوح منها رائحة الخريف الألماني. ثم، بكل جسارة، ارفع علم النجوم والمجموعة الفكرية الجديدة، وقل لها بصوت مرتفع ومؤثر حد الضحك: الفلسفة اليوم تُمارَس في شوارع أمريكا لا في أكاديميات أوروبا. من قال إن الفلسفة تحتاج إلى عمامة أو جبة؟ اليوم، يكفي أن ترتدي حذاء رياضيًّا من نايكي، وتحمل كوب قهوة عليه عبارة «فكر خارج الصندوق»، لتبدأ في التنظير حول طبيعة الوجود أثناء انتظارك لدورك في ستاربكس. يقول كارلين رومانو، في أطروحته المثيرة «أمريكا الفلسفية»: «الأمريكي هو الكائن الأكثر فلسفية في تاريخ البشرية، لأن كل شيء في ثقافته ينضح بالحجج، بالرأي الوقح، وبالاستعداد الأعمى لتفنيد أي حقيقة، لا لشيء، إلا لأنها قيلت من قبل السلطة». يا إلهي... سقراط نفسه كان سيصفق لهذا المجتمع، ولو من داخل زنزانته في أثينا، وهو يحتسي سمّ الشكّ المزعوم. في أمريكا، يعتزل المصارع الحلبة ليلتحق بكلية فلسفة. نعم، حدث ذلك. ليس في رواية سريالية لتوماس مان، بل في ولاية أيوا. لم يعد السائلون عن معنى الحياة يجلسون في حانة مغمورة بباريس، بل يظهرون على شاشات التلفاز في برامج حوارية يتصارع فيها الضيوف كما تتصارع أفكار نيتشه في ذهن طالب سنة أولى فلسفة. والسؤال الآن: هل هذه سخرية؟ ربما. لكن كما قال هوفستاتر: «في أمريكا، ربما تكون لعبة العقل هي الشكل الوحيد للعب الذي لا يُنظر إليه بتساهل». يا لها من لعبة! أشبه برقصة موت عقلية يؤديها المواطن الأمريكي بين شاشات، وهاشتاغات، ونظريات مؤامرة بنكهة الوجودية. في زمن أفلاطون، كانت الحوارات تُجرى في ظلال الأعمدة. أما اليوم، فالفلاسفة الجدد ينقرون آراءهم عبر (X) تويتر سابقا، حيث كل تغريدة بمثابة تأمل منقطع النظير في طبيعة الحقيقة... أو في أفضل برغر نباتي في الجادة الخامسة. كم هو مدهش أن ترى لورين هوتون، عارضة أزياء، تقول إن مرجعها الفكري هو كاميل باجليا. في فرنسا، قد يعتبرون ذلك تدنيسًا للهيرمينوطيقا. في أمريكا؟ إنها حرية الفكر. وفي الحقيقة، لا شيء أكثر فلسفية من الجرأة على التصريح باللا معقول بوجه مستقيم. هذه هي أمريكا، يا صديقي. البلاد التي احتضنت الفلاسفة في مستشفياتها وسجونها وشركاتها الناشئة. ليس هناك من مكان آخر يُمنح فيه المفكر لقب «فيلسوف داخلي» في شركة تكنولوجية! (هل تتخيل ابن رشد كمستشار لشركة أبل؟ أو ابن خلدون يراجع خوارزميات فيسبوك؟ في أمريكا فقط). ما نعيشه اليوم هو انفجار فلسفة رقمية، فلسفة ب«كود مصدر»، بفلاتر سناب شات، ومقاطع تيك توك تناقش «ماهية الذات في عصر الذكاء الاصطناعي»، بينما في الخلفية موسيقى إلكترونية تردد بصخب: «أنا أفكر إذًا أنا لا أملك الوقت الكافي». لقد صارت الفلسفة هناك منتجًا ثقافيًا واسع الانتشار، تُستهلك كما تستهلك القهوة الباردة، وتُناقش كما تُناقش نتائج الدوري الأمريكي. ولا عجب، فإن كل قهوة تحتوي على قدر من الكافيين يوازي كتابًا لكانط، ولكن دون الحواشي. يقول رومانو: «أمريكا للفلسفة كإيطاليا للفن»، لكنها فلسفة من نوع آخر. فلسفة ببنطال الجينز، بالشاشة اللمسية، بالوجبة السريعة من التحليل الأخلاقي، والجرعة المكثفة من الشكّ في كل شيء، بدءًا من الحكومة، مرورًا بالمناخ، وانتهاءً بوجود الديناصورات. ما يثير الألم حقًا، أن هذا الانفتاح الفلسفي لا يأتي من عمق التأمل، بل من فرط التشكيك. «كل سلطة تُرفض، كل حقيقة تُناقش، حتى الثقل النوعي للماء قد يصبح رأيًا شخصيًا قابلًا للدحض في بودكاست ما». لقد عرفت الفلسفة قديمًا طريقين: إما أن تنتهي بحل، أو بجلطة عقلية. أما في أمريكا، فهي تنتهي بتوقيع عقد إنتاج مع نتفليكس. ولكن، لا يمكننا أن نضحك فقط. فكما يقول سلافوي جيجك: «عندما تصبح الفلسفة مجرد ديكور في السوق الحرة للأفكار، تصبح عاجزة عن لمس جوهر المأساة». وهذا هو وجه السخرية المؤلم: في الوقت الذي تُمارَس فيه الفلسفة بكثافة غير مسبوقة، تُفقد قدرتها على تغيير أي شيء. تسير بجوار السلطة، لا ضدها. تُدغدغ الوعي، لكنها لا توقظه. هل أمريكا حقًا هي الوطن الجديد للفلسفة؟ ربما. ولكنها فلسفة هجينة، مرآوية، تدور حول ذاتها كما يدور نيتشه في جنونه الأبدي. فلسفة تضحك وتبكي، تسخر وتؤلم، تفكر ثم تنسى... ثم تغرد.