لا يخفى علينا الأثر الفكري الكبير لأبي حامد الغزالي أحد أهم علماء عصره. فكل المهتمين بالفكر والفلسفة يعرفون موقفه المثير للجدل من الفلسفة اليونانية وهو موقف له دوافعه السياسية الصريحة. الغزالي، في واقع الأمر لم يكن مجرد فقيه أو متكلم، بل رجل سياسة من الطراز الرفيع، مثقف منخرط في مشروع الدولة السياسي. تربطه برجالات الدولة السلجوقية علاقة وثيقة تجاوزت حدود النشاط العلمي والديني إلى المشاركة الفاعلة في المشروع السياسي. فقد التحق الغزالي بحاشية الوزير «نظام الملك» وبتأثير من الأحداث السياسية الملتهبة في عصره أخرج للوجود مجموعة من كتبه الهامة في علم الكلام ونقد معتقدات الفلاسفة الدينية، ولا يمكن فهم موقف الغزالي من الفلسفة دون وضعه في سياقه الاجتماعي الواقعي. يمكن اعتبار الغزالي «مثقفا عضويا» أي مرتبطا بمشروع سياسي محدد، فهو لا يكتفي بالتنظير بل ينخرط في تشكيل الوعي العام بما يحقق الوحدة الثقافية في المجتمع، فقد كان على قمة المفكرين الذين شنوا هجوما لاذعا على أفكار ومعتقدات الفرق الباطنية التي يتفق خطابها العام مع معتقدات فلاسفة اليونان الدينية، في الوقت الذي زاد فيه خطر الفرق الباطنية السياسي حتى تحولت لتنظيمات مسلحة تهدد أمن الناس وسلامتهم. ومنصبه الرفيع في المدرسة النظامية لم يكن مجرد وظيفة تعليمية اعتيادية بل موقفا في البنية الفكرية من خلاله يمكن التأثير في تصورات الناس عن الكون والحياة والمعاد، ما يساهم في تشكيل سلوك الأفراد والجماعات ويؤثر في استقرار المجتمع أو اضطرابه. من هنا يمكن إدراك حقيقة الحملة المضادة التي شنها ابن رشد على مشروع الغزالي الفكري الذي لا يخرج عن الدوافع السياسية نفسها، فكتاب «تهافت التهافت» لا يمكن فهم دوافعه دون وضعه في سياق دولة الموحدين في قرطبة وتوجهاتها السياسية، وفيه يعيد ابن رشد تدوير الأفكار والحجج في سبيل تشكيل وعي جديد مستقل وبناء نخبة فكرية جديدة، وبالتالي يجب أن نتجاوز الفهم السطحي للصراع بين الغزالي وابن رشد، وننتقل لعمق البنية السياسية والأيديولوجية لهذا الجدل. ابن رشد كان يشغل منصبا قضائيا رفيعا في دولة الموحدين, وكان مقربا من الخليفة أبي يعقوب يوسف، لذلك يمكن القول إن شروحات أرسطو للمنطق اليوناني لم تكن اهتماما شخصيا لابن رشد بل مشروعا قوميا يسعى للتحرر الفكري، فكتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي ظل مؤثرا في الوعي العام لأجيال، وبالتالي كانت رغبة ابن رشد في كسر الهيمنة الفكرية التي أسسها الغزالي ولم تكن رغبته -في الحقيقة- الدفاع عن الفلاسفة والفلسفة. الغزالي كان له تأثير كبير في دولة المرابطين فقد اعتنقوا مذهبه الأشعري وتأثروا بأفكاره، لذلك فاستهدافه في كتاب «تهافت التهافت» لم يكن شخصيا أو بدافع الإعجاب بالفلسفة والفلاسفة، بل كان رفضا لتراث فقهي وكلامي سيطر على الأندلس والمغرب عقودا طويلة. والموحدون تبنوا مشروعا ثقافيا منافسا للمرابطين لا يمكن فهمه خارج سياق الصراع الثقافي مع ميراث المرابطين الأشعري، وابن رشد كان يسعى عمليا إلى إعادة تشكيل الوعي النخبوي خارج سيطرة الفكر الأشعري.