لا نحتاج إلى تدشين مقالي بأهمية معارض الكتب، ودورها في التنمية الفكرية والثقافية وعلى جميع الأصعدة، فالمهتمون كفونا مؤونة التعاطي مع الملحوظات المكررة في كل عام عن معضلات التنظيم التي تتجدد في الزمان والمكان. وحين يجمل الكلام عن معضلة يحين التركيز على جزء، كي تحدد المشكلة، وكي يسهل حلها، لا عموميات تذوب في هم جماعي غير مجسد ومؤطر، فالكل يدلي بدلوه حتى يتشقق الكلام إلى خارج مدى المعرض، فتصيب عدوى الكلام الإنشائي أطرافا من المهتمين بالشأن الوطني، كل من منبره، فتضيع بوصلة الرأي إلى شأن آخر. موضوعنا محدد، وهو نون النسوة، وما أدراك ما نون النسوة، فهؤلاء النسوة كبارا ومراهقات هن السمة الغالبة في المعرض، فالرجال قل اهتمامهم بسوق الكتب، وجيل القراءة الجادة خف، وربما اختفى، عن تلك الكرنفالات المرهقة، وأكثرهم اكتفى بما عنده، ومكتباتهم مكتظة، ولم يعد مكان في مكتباتهم للجديد، وإن احتاج فالتسوق الالكتروني يفي بالغرض، وصار الجيل الجديد يتسوق ويقتني الهراء من إبداع مجايليهم من متوسطي ومتدني الكتابة الإبداعية. وأضحى المعرض مظلة كبرى تتجول تحت جنباتها المترامية نون النسوة، ببطء ورخاوة، وبحاسة شم قوية جدا لأكشاك القهوة والكابتشينو والكعك المحلى، فلا ترى – في الغالب – فتاة إلا ويداها بأظافرها الطويلة الملونة تمسك بجوال مفصص، وأخرى بكأس كبيرة، ومعلقة على كتفها حقيبة تخشخش حتما بالمأكولات الاحتياطية ولوازم الترفيه، بينما المتسوقون الذين حكم عليهم ضيق الوقت يضطرون إلى التسارع، وزيارة أكبر قدر من الدور التي بلغت أكثر من ألفي دار نشر، ولو وقف المتسوق على كل دار وكتاب لاستغرق أسابيع للاطلاع على تفاصيل الكتب وطبعاتها وموضوعاتها.. إلخ. فوجود نون النسوة بأشكالها نوع من الترفيه ونزهة كغيرها من نزهات المهرجانات التي لا تتوقف عروضها على مدى السنة، وهن مادة دسمة لدعم الزخم الكرنفالي أيا كان، ومنه الكتب والثقافة الاستهلاكية الرديئة التي لا تتطلب غير المال الذي توفره النساء بسخاء، لإرضاء غريزة التسوق، أو إشباع رغبة غامضة، أو لدفع حالة نفسية كالاكتئاب، وأقلها الفراغ الاجتماعي، لذا فهن فرصة للتاجر الجشع الذي لا يرى فيهن غير المال الذي يقذفنه في أول بريق يلمع، بعد أن يستعرض البائع مهاراته لترويج سلعته بمهارة البهلوان، وتفيهق المعلن عن سلعته.. عن رواية سمجة أو ديوان شعر من الدرجة العاشرة، أو كتاب تطوير ذات رديء المحتوى. فمن المشاهد المعتادة فتاة تقف وسط الطريق محتارة إلى أي جهة تتوجه، فتتحرك فجأة لأقرب محل تزينه أغلفة الكتب الملونة، أو محل اكتظ بالزبائن، ويشجعها البائع على الاقتراب والتصفح فتستجيب، وإثر ذلك تلخس عربة من اشترى ومن يحاسب، فتحفظ ما أسعفتها الذاكرة فتشتريه، وبعد أن يمد البائع الكتاب يرفقه بكتابين أو ثلاثة مع التشجيع والحلف بأهمية الكتاب فتدفع بلا مفاصلة وتمضي. وأخرى ذات معرفة سطحية بكتاب جديد، عرفته من الدعايات التي صارت تروج للكتب كما تروج لمنتج، وتأتي لبائع فتسأل عن الكتاب سؤال العارف بخلفيته الركيكة، فتتفلسف حتى تثير الشفقة من الإفصاح عن ضحالتها، فتجمع ما قسم الله لها، فيقصفها البائع بمبلغ غبنت فيه لجهلها بأسعار البضاعة وقلة خبرتها، ثم تغادر وتتفطن إلى ما تهدل من نقابها أو حجابها، وتتمخطر بغبطة الانتماء إلى زمرة القارئات المثقفات، فتشتاق إلى جلسة حلا واستراحة للثرثرة واستقبال الرسائل الجديدة، كل ذلك يتم في جهد وحالة عصف ذهني مرتبك تمر بها، ويجب أن تستريح بعدها، كي تعاود التنزه والفرجة في الكرنفال الذي يحوي المتناقضات. وأخريات حجر عثرة لا يستطعن السير بالطريقة التلقائية، حيث واحدة تقبع في وسط الطريق، وثانية تصيح وتطلب الإفساح، لأنها تحمل أكوابا مملوءة لصديقاتها، وثالثة تشير بأناملها لتمنع المارة لأنها تلتقط بكاميرا الجوال مشهدا مهما وفرصة نادرة للتوثيق، إلى أن يتعثر الزائر بكومة من البشر يفتقدون لحساسية الذوق وسط الحشود، فيعرقلون سلاسة الحركة وتلقائيتها. ونون النسوة لا شك في أمان من التماس العارض والغلط العفوي، وفي طمأنينة بالغة بسبب التقدير والتبجيل الذي تحظى به في الأماكن العامة، والحساسية الدقيقة في التقدير والتفاهم بين الرجل والمرأة، وبذلك فهي تسرح في حرية وتتحرك دون توتر يقيد حرية حركتها، التي يتوجس منها الرجل الذي قد لا يحسن فيه الظن لأنه الرجل وهي المرأة. وهكذا في كل مكان من بين النساء اللاتي يتجولن في المعرض وفي أروقته ودهاليزه وساحاته لا تسمع إلا النداء الحاد: «لو سمحت لو سمحت»، إذ تطلب الابتعاد عن طريقها بصلف وكبرياء عجيب. أما في ساحة الباصات التي تحشرنا معهن، فقد تورط الرجال للتزحزح عنهن، فيصعدن بخفة وبلا نظام ودون إيثار أو حياء، حتى يضطر الواحد إلى انتظار الباص الآخر وهو يجرجر عربته تحت الشمس الحارقة، يسمع ضحكات البنات وصخبهن دون تقدير لعمره ورجولته. أما منصة التوقيع فأعجوبة، إذ تغص حواجزها وما حولها بالنساء، لا الرجال، وبضجيج اضطرت المنظمات معه لطلب الهدوء والصمت، والفلاشات لا تنقطع والمنصة فارغة بانتظار المؤلف الذي لم نسمع به في تلك الفعالية العارضة التي يتجنبها الرجال اتقاء التوتر والتعب، وزهدا في مشهد لا يعنيهم في رصيد علمي أو معرفي. ولأن نون النسوة تقود السيارة أسهمت في عرقلة حركة المرور، فقد تقف في نقطة تقاطع، وتحتار في اتخاذ قرار انعطافة محددة، ثم تندفع فجأة اندفاعة مزاجية غير محسوبة، وقد تحتك مركبتها لولا حذر الطرف الآخر. وقد تتابع نون النسوة الكبيرة والصغيرة على جوالها أو تحادث صديقتها المجاورة في موضوع يهمها جدا، استحوذ على وعيها عن محيطها الذي هي فيه، وقد يكون العكس: في عجلة هي، فترفع عقيرة سيارتها في إزعاج متواصل، تطلب به إفساح الطريق دون أعذار للموقف المربك أمامها أو تلطف وصبر، فالأهم الإفساح عن طريقها، وهي باعتقادها ليست مسؤولة عن الخطأ الواقع أمامها، فهذا طريق ويجب أن يبقى في حركية مرور رائقة لها، فيشفق الناس على حقها المشروع في المرور، فإذا التفت الآخرون وجدوها بنظارة سوداء وغرور فارغ وفرفشة مع صديقاتها، لأنهن مستعجلات على موعد مع مطعم فاخر. وتختصر تلك العقد في مكان واحد، في بوابة الدخول حتى اضطر المنظمون إلى تحديد بوابة خاصة للنساء وأخرى للرجال. ففي بوابة النساء ترتيب خاص للتعامل معهن.. بطء في الاستجابة وتلكؤ غير متعمد يثير الأعصاب، ناتج عن طبيعتها في الاهتمام بالتفاصيل، كي تبرز تذاكر الدخول، وتقرقع في حقيبتها في البحث عن شيء ما غير مهم، فيحتاج الموقف إلى منظم ذي سعة في البال، يتحالم مع تلك المواقف التي لا يطاق فيها الخواء الذي لا معنى له. وقد يعتري النخبة المثقفة من النساء شعور بالامتعاض من هذ المقال مما تعده هجاء بحق نون النسوة، لكنهن - المثقفات - يبقين أقلية واستثناء في عالم الجيل الجديد من السعوديات، والحراك الفاعل يدعمه الشباب الصاعد، وإن كان فقاعيا في عالم الثقافة التي أفسحت جبرا لعالم المال والأعمال، فغدا العلم جزءا من التجارة لا أكثر، وهذا الوضع القائم ضربة لازب في الدنيا الجديدة، وإذا ما ترسخ وضع ثقيل، يفتح وضع آخر، يفتح كوة أخرى ودنيا جديدة.