معاناةُ الشعوبِ العربيةِ من فقرٍ وحروبٍ وأزماتٍ اقتصادية، بينما على الطرف الآخر من الضفّة شيوخُ دعاةٍ وشيوخُ دينٍ يتربّعون على ثرواتٍ طائلة. فكيف وصلنا إلى هذا التباين، مع أنّ المعروف أنّ دعاةَ الدين وعلماءَه الأصلُ فيهم والأقربُ أن يكونوا من أهل الزهد والترفّع عن القنوات الفضائية والشهرة والتنجيم، حتى أصبح عددٌ كبيرٌ منهم ينافس في نجوميته محمد صلاح لاعبَ ليفربول! هذا التناقض الصارخ يبدو جليًّا في رؤية الفقر والحرمان في أعين أطفالٍ وشبابٍ وفتياتِ المجتمعات العربية، ونرى بالمقابل عيونَ أبناءِ هؤلاء الدعاة والعلماء تبتهج بمتع الحياة من سياراتٍ فارهةٍ لا يقدر على ثمنها أبناءُ الوزراء في بلدانهم، بينما هي واقعٌ معاشٌ لأبناء هؤلاء الدعاة. خذ مثالًا: الشيخُ المصري محمد حسان يمتلك ما لا يمتلكه رجالُ أعمالٍ من وسائل إعلامية، وبرنامجٌ ثابتٌ يسوِّق صورتَه للمجتمع. وقد فضح ابنُه والدَه، الذي لا يتكلم إلا عن الرقائق وأعمال القلوب والحب والحسد والبغضاء وكثرة الصدقات، عندما أخرج صور سياراته ومزرعته وفيلته التي لا يمتلك مثيلاتها كثيرٌ من المنشغلين في مجال المال والأعمال. وأيضًا لديك شخصٌ آخر ذاع صيته في مجتمعه، هو الشيخ مصطفى العدوي، الذي انتشر عبر برنامجٍ تلفزيوني بعنوان «الطريق إلى الله» على قناة الناس الفضائية، حيث يدغدغ مشاعر البسطاء، الذين يُطلَق عليهم لفظ «العامة»، لاستقطاب الجمهور، مما فتح بابًا للإعلانات والتبرعات التي جعلت منه أحدَ أثرى العاطلين عن العمل في العالم العربي! أضف إلى ذلك الدعاةَ الذين استغلّوا الانفجارَ الذي حصل لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث بدأت الإعلانات تنهال عليهم من كلّ حدبٍ وصوب، إلى جانب الدعم الذي يتلقّونه من المتابعين؛ فمرةً «أسد» على تيك توك، ومرةً «حوت»، وأحيانًا دعاياتٌ مدفوعةُ الثمن على يوتيوب. تضخّمٌ وبطالةٌ ونزاعاتٌ كانوا سببًا في تأجيجها يتجاهلونها، وكأنها ليست واقعًا معاشًا يعانيه الكثير، لأنّ محاربة مثل هذه القضايا ستجعل الناس، الذين يطلقون عليهم «العامة»، ينفضّون من حولهم إلى دنياهم، مما سيفقدهم الدرهمَ والدينارَ ولمعانَ الذهب. هذه اللا مبالاةُ بمعاناة المجتمعات مقابل مصالحهم الشخصية تنطوي على مخاطر، إذ مع مرور الوقت ستفقد هذه المجتمعاتُ الثقةَ بالمؤسسات الدينية، وفقدانُ الثقة سيخلق فجوةً عميقة تتيح فرصةً ذهبية لاستغلالها ممن له أجنداتٌ خاصة. كذلك، فإنّ هذا التنجيمَ للدعاة والعلماء ومنافستَهم للفنانين واللاعبين يؤثر في الأجيال الناشئة والقادمة، إذ تبحث عن مصادرَ إلهامٍ مختلفةٍ وجديدة، مما يعني نشوءَ ندوبٍ لن تندمل، بل قد تؤدّي إلى انتشار الجريمة والانحلال الأخلاقي وفقدان الثقة بالصدق والتعاون والكرامة الإنسانية، لصالح البغضاء والقسوة والغدر وكراهية الإنسان لأخيه الإنسان. مثلُ هذه الظواهر ستخلق كوارثَ في النفوس البشرية ستحتاج إلى عقودٍ طويلة لإصلاحها؛ فالعطّار لا يُصلح ما أفسده الدهر، مما يعني أنّنا بحاجة إلى التخلية قبل التحلية، وهذا لن تستطيع الحكومات العربية إصلاحَه بأقلَّ من خمسين سنة! الحاجةُ ماسةٌ إلى إصلاح الخطاب الديني، ليعود الخطابُ لخدمة الدين والناس لا لخدمة أشخاصٍ أو جماعات. كذلك على المجتمعات أن تفعل دورها في مراقبة هؤلاء، عبر تنبيه بعضهم بعضًا من الاستغلال باسم الدين، وأيضًا بتوعية الناس ومواجهة أمثال هؤلاء «النجوم» الدينيين بأننا واعون لما يقومون به، وأنه لا ينطلي علينا، مما يعني تعريتهم وإجبارهم على الانزواء في أماكنهم، لأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا أكبر من وعي الشعوب. الدين لله، ونجومية العلماء للبنوك!