العالم أصبح افتراضيًا فعلاً!، لم يعد مجرد تصور أو وهمًا خلف الشاشات، بل أصبح واقعًا يتجاوز الجدران والحدود. صار هو الحقيقة التي نعيشها، والأرض التي نسير فوقها بأقدام رقمية، لقد استوطنّا داخله، حتى غدت لحظاتنا الأكثر صدقًا تُعاش هناك، خلف أسماء مستعارة وصور مُعدّلة. ها هو ذا العالم يُعاد نسجه على ضوء إلكتروني؛ الوجوه تتقلص في أيقونات، وتتحول المشاعر إلى رموز، وتتشابك العلاقات كسلاسل بيانات لا تعرف حدودًا. صرنا نعيش في مرايا متقابلة، نرى انعكاسنا في عيون الآخرين الافتراضية، فتتعدد ذواتنا، وتتفتت هوياتنا بين المتخيل والحقيقي. اللحظات لم تعد تُحفر في الذاكرة، بل تُخزن كملفاتٍ باردة، والعواطف لم تعد ترتجف بصدقها، بل صارت إيموجياتٍ تُضاء لحظة ثم تختفي، تاركة وراءها قلبًا أحمر ينبض في الفراغ. ومع ذلك، لا يتوقف هذا العالم عند سطح المشاعر، إذ لا يلبث أن يتمدّد إلى كل تفاصيل حياتنا اليومية؛ فإذا بنا نعمل ونتعلم، نحب ونكره، نبني ونحلم.. بينما تنسحب الحياة الملموسة إلى الهامش، وتفقد دفئها شيئًا فشيئًا، تاركة مركز المسرح لهذا الواقع الجديد. العالم لم يعد افتراضيًا كما نظن، بل صار هو الحقيقة الطاغية، بينما تراجع الواقع الحيّ إلى خلفية باهتة لا يكاد يراها أحد، وهذا ما يفرض علينا تعريفًا جديدًا للإنسان وعلاقاته بالآخرين. ما نحتاجه حقًا هو لحظة صمت، أن نغلق أجهزتنا، ونمدّ أيدينا إلى العالم الحقيقي، لنكتشف أن خلف كل هذا الوميض، ما زالت هناك عين تبحث عن عين، ويد تفتش عن دفء يد، وقلب أحمر ينتظر خفقةً حقيقية لا يحاكيها أي افتراض، مهما اكتمل سحره في عالم افتراضي.