من طبائع العقل البشري أنه يتفاعل بحدّة مع المواقف المستفزّة أو السلوكيات الخارجة عن السياق القيمي أو الأخلاقي، إذ يكون النقد في بدايته انعكاسًا مباشرًا لليقظة الذهنية ورفض الانحراف. ومع تكرار مثل هذه المواقف دون أي معالجة حقيقية أو تغيير ملموس؛ يواجه الإنسان ما يُشبه الإنهاك الداخلي، الذي قد يُفضي تدريجيًا إلى تراجع صوت العقل وانحسار حدّة النقد. ليس ذلك لأن الخطأ أصبح مقبولًا، أو أن القيم قد تغيّرت؛ بل لأن العقل - في حالات العجز أو قلة الحيلة - يدخل في حالة من «التكيّف السلبي» حيث تنكمش طاقته على المقاومة، ويتراجع عن موقع الرفض النشط إلى مسافة أكثر هدوءًا، وأقل تأثيرًا. هذا الانسحاب العقلي لا يُعدّ ضعفًا في الفطرة النقدية بقدر ما هو انعكاس لضغط التكرار، وثِقل الإحباط، وغياب الاستجابة. فمع كل موقف يتكرر دون تصحيح، تتسرب القناعة تدريجيًا بأن النقد لم يعُد مُجديًا، وأن التغيير لن يحدث، الأمر الذي يُهدد بتحوّل الخطأ من حدث استثنائي إلى واقع دائم ومؤلم، ومن حالة مرفوضة إلى «أمر مألوف». وفي هذا السياق، تصبح خطورة التكرار أشد فتكًا من خطورة الفعل نفسه؛ لأن التكرار المستمر يُطبع السلوك في الذاكرة الجمعية، ويُبلّد الحس العام، ويُضعف مقاومة الرفض شيئًا فشيئًا. مقولة تُنسب لألبرت أينشتاين مفادها: «الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتنتظر نتيجة مختلفة». هذه المقولة تلخّص حالة أن التكرار مع غياب التغيير يوقع العقل في دائرة من التبلّد وعدم الاستجابة. من هنا، فإن معالجة المواقف الخاطئة لا تتعلق فقط بردود الفعل الآنية، بل بالاستجابة السريعة والعميقة، التي تُعيد الثقة للعقل في قدرته على التأثير، وتؤكد أن الوعي النقدي لا يُجابه بالتجاهل، بل بالإصغاء والتصحيح، فالخطر الحقيقي لا يكمن في وجود الأخطاء، بل في التعايش معها. إنَّ استمرار الأزمة دون معالجة جذرية، لا يُضعف فقط الذاكرة الجمعية، بل يُمهّد لتطبيع الخطأ وامتصاص الصدمة تدريجيًا، حتى تغدو الكارثة خبرًا عاديًا، وما لم يُرفَق النقد بالفعل، فإن أقوى المواقف قد تفقد أثرها، ويتحوّل الضمير الحيّ إلى ذاكرة مُنهكة، غير قادرة على الاستمرار في المقاومة. النماذج كثيرة، ولكن ما يهمنا هو: النموذج الفلسطيني، قضية فلسطين والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى إلى غَزَّة اليوم وما أصابها، والاختراقات السابقة واللاحقة على دول الإقليم، وانتهاك سيادة الدول. هذا التكرار لم يُولِّد التغيير؛ بل طوّع العقل على التعايش مع الخسارة، وتحويل المأساة إلى أمر عادي. هذا التكرار، دون ردع أو شفافية؛ يؤدي إلى تبلّد الحس العام و«تطبيع» الفساد في الوعي الجمعي. توصية: إن كسر حلقة التكرار لا يكون بالصوت العالي والصراخ، بل بإعادة الروح إلى الإحساس الأول، فلا شيء أخطر على المجتمعات من اعتياد الخطأ، ولا دواء أصدق من وعيٍ يبقى حيًا مهما تكررت المآسي، فالتكرار لا يقف وحده؛ بل يُوقَف!!