في موسم تتزاحم فيه الفيروسات مع خُطى الزائرين، وتتحوّل فيه القُبَل والعناق إلى نواقل للخطر، قد تُصبح أسمى تعابير الحب تلك التي تُقال من بعيد. وما يبدو لك «زكامًا عاديًّا» قد يتحوّل في جسد والدك أو والدتك إلى معركة صحية لا تُحمد عقباها. لا يُنكر أحد دفء اللحظة التي يفتح فيها الأجداد أبواب منازلهم لاستقبال أحفادهم، ولا عمق صلة الرحم التي تثمرها تلك الزيارات. لكن، في بعض الأحيان، قد تُكلّفنا العاطفة أثمانًا لا تُعوَّض، وقد يدفع كبار السن ثمنها من صحتهم. في عالم تتفشى فيه الأمراض بلا استئذان، يُصبح الامتناع عن الزيارة أحيانًا أصدق البرّ، وأبلغ الحكمة. فكثيرون لا يزالون يربطون البر بالزيارة، متناسين أن أعظم صورة أحيانًا هي أن تمتنع عن اللقاء حبًّا لا جفاءً، ووعيًا لا تجاهلًا. ولا يخفى أن مصدر العدوى غالبًا ما يبدأ من حيث لا نتوقع: من المدارس. فهي اليوم أشبه بمراكز مصغرة لتبادل الفيروسات، حيث ينتقل المرض بين الأطفال بخفة ظل لا تخلو من خطورة. وما يبدو «رشحًا بسيطًا» على وجه الطفل، قد يتحول إلى أزمة صحية لدى الجد أو الجدة، ممن أنهكتهم الأيام وأضعفت مناعتهم السنين. للأسف، لا يزال بعض الناس يقول بثقة: «ما فيها شيء، بس زكام بسيط»، دون أن يدرك أن هذا «الشيء البسيط» قد يكون آخر ما يُصيب به من يُحب. وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الأطفال من أكثر الفئات نقلًا للعدوى الفيروسية، بسبب احتكاكهم الدائم، ومشاركتهم للأدوات، وضعف التزامهم بالإجراءات الوقائية. في المقابل، تشير الدراسات إلى أن كبار السن، لا سيّما من تجاوزوا الستين، يعانون من ضعف في الجهاز المناعي، يجعلهم عرضة لمضاعفات خطيرة، حتى من أمراض تُعدّ خفيفة عند غيرهم. نحن هنا لا ندعو إلى القطيعة، بل إلى الوعي. علينا أن نفكر في البر بعقل لا يكتفي بالزيارة وتقبيل الأيادي، بل يُقدّر العافية كأغلى هدية. اليوم، أصبحت الكمامة نوعًا من الاحترام، وتأجيل الزيارة نوعًا من التقدير، والرسالة الصوتية كافية للتعبير عن الحب. كم من شخصٍ زار والديه وهما بصحة، وأطفاله يسعلون ويعانون من الزكام، فانتهت الزيارة بوالدٍ على سرير المرض، أو بأمّ نالها التعب. والحقيقة أنه لم يبرّهم، بل جلب لهم المرض باسم العاطفة، حين لم يُحسن ضبطها بالحكمة. لذلك، أجِّلوا زيارة أولادكم لوالديكم حتى يتعافوا تمامًا. لا تجعلوا من حضور أطفالكم سببًا في غياب من تحبّون. فالمحبّة لا تموت إن تأخرت، لكنها قد تتحول إلى أذى؛ فبعض اللقاءات، وإن أسعدت لحظيًّا، قد تُحزن طويلًا. وفي زمن الأوبئة، البر الحقيقي هو أن تختار بعقلك صحة من تحب، لا أن تجلب لهم المرض باسم البرّ. ولنتذكر دائمًا أن العافية أثمن من اللقاء، والاحتواء أصدق حين يُغلفه الوعي.