هل تأملت يومًا كيف كانت تُخاض المعارك النقدية في عصور ازدهار الأدب العربي؟ تلك التي لا تُرفع فيها السيوف، بل تتقاطع فيها الرؤى، وتتبارز فيها الأفكار، حينها كانت الكلمة آنذاك أكثر من وسيلة تعبير؛ كانت سلاحًا، وموقفًا، ومبدأ. كان النقد الأدبي ساحة فكرية لا يغيب عنها الصدق، ولا تخلو من الجمال، وكان الشعر ميدانًا تتجاذبه قوى: المعنى العميق من جهة، واللفظ البديع من جهة أخرى. تخيل المجلس الأدبي في بغداد أو البصرة، حيث يعلو صدى الجدل الراقي حول الشعر. فسُئل: أيُّهما أوجب التقديم في القصيدة؟ جمال اللفظ أم عظمة المعنى؟ في هذه اللحظة ينهض الجاحظ بحضوره الحي وصوته الذي لا يغيب فيرد بسخرية ذكية: «المعاني مطروحة في الطريق وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك؛ فالشعر صناعة»، فنجد عنده أن المعنى ليس حكرًا على أحد، بل مشاع وظاهر في الواقع، فالتفوق الشعري عنده ينبع من البلاغة والمهارة، من تحويل المألوف إلى مدهش والعادي إلى مبهر عبر انتقاء الألفاظ. ثم يأتي ابن قتيبة كحكيم يجمع الخيوط: لا نصطف لِلفْظٍ على حساب معنى، ولا نُعلي المعنى دون جودة في اللفظ. فقسّم الشعر إلى أربعة أنواع: حسن لفظه وجاد معناه، حسن اللفظ وخاوٍ من المعنى، جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وتلك التي يقصُر فيها الاثنان. ليؤكد بذلك ضرورة التوازن، فالشعر الجيد، عنده، ما جمع الحسنيين: عمق المعنى وأناقة العبارة. فبين موقف الجاحظ الذي يقدّس الصناعة اللفظية، وموقف ابن قتيبة الوسيط، تتجلّى حقيقة: المعركة بين اللفظ والمعنى ليست إقصاءً، بل ترتيب أولويات؛ كلٌ يرى من زاويته، لكنهم متفقون تقريبًا على أن الشعر لا يكتمل بجمال الشكل وحده، ولا بصدق المعنى فحسب، بل بتآلف الاثنين في لحظة إبداع متكاملة. لذا حين نقرأ الشعر اليوم، أو نمارس النقد أو نتجادل حول قيمة نصٍّ ما، يجدر بنا أن نستعيد وعيهم، وأن نصغي كما أصغوا، ونزن كما وزنوا، ونختلف بذات الرقي. فالقيمة النقدية لا تُقاس بانتصار رأي على آخر، بل باتساع الرؤية وبإحياء النص في عقول متعددة تُضيء جوانبه بقراءات متباينة.