شهد العالم مؤخرًا لقاءً لافتًا جمع الرئيس الصيني شي جين بينج بنظيريه الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في بكين، حيث التقطت عدسات وميكروفونات الإعلام حوارًا جانبيًا بينهم تناول واحدة من أكثر القضايا إلهامًا وإثارة: إمكانية إطالة العمر وتجديد الشباب، بل وعيش الإنسان حتى عمر 150 عامًا. وعلى الرغم من أن موضوع إطالة العمر ليس جديدًا في الأوساط العلمية، إلا أن مجرد طرحه على طاولة زعماء دول كبرى يمنحه وزنًا مضاعفًا، ويؤكد أن هذا العلم لم يعد ترفًا بل اتجاهًا عالميًا في رسم ملامح المستقبل. لكن، إذا عدنا بالذاكرة، نجد أن صحيفة الوطن السعودية كانت السباقة في تبني هذا الطرح قبل سنوات طويلة، حيث نشرنا مقالات متخصصة بالموضوع. وكذلك أنتجنا فيديوهات توعوية لتعريف الناس بعلم إطالة العمر الصحي ومكافحة الشيخوخة منذ أكثر من خمس سنوات. بل إن مقال «الوطن» الشهير بعنوان «ماذا سيفعل السعوديون في سن 120 عامًا؟» سبق أن تناول ذات الفكرة التي تحدّث عنها الزعماء اليوم، وذكرنا بالنص: «وفريق آخر يقول إن الجسم البشري يمكن أن يعيش (120-150) عامًا! وكل لديه حجته وأبحاثه». يُعد علم إطالة العمر الصحي مجالًا متعدد التخصصات يركز على تمديد فترة الصحة الجيدة لدى الإنسان، أي السنوات التي يعيشها الفرد وهو متمتع بالعافية بعيدًا عن أمراض الشيخوخة. ويدرس هذا العلم الآليات البيولوجية للتقدم بالعمر ويطور تدخلات تهدف إلى إبطاء التدهور الجسدي والعقلي، عبر بحوث في الجينات، وتجديد الخلايا، ونمط الحياة، ويتداخل معه علم مكافحة الشيخوخة، الذي يسعى لإبطاء أو حتى عكس مظاهر الشيخوخة على المستوى الجزيئي والخَلوي والجهازي. وقد أصبح هذا المجال من أكثر التخصصات جذبًا للباحثين والاستثمارات على مستوى العالم. وتشير التوقعات إلى أن سوق العلاجات الوقائية ومكافحة الشيخوخة سينمو بمعدل سنوي مركب يبلغ 21.5 % ليصل إلى 247.9 مليار دولار بحلول عام 2030، فيما يُتوقع أن يرتفع سوق تقنيات إطالة العمر بمعدل 6.1 % ليبلغ 44.2 مليار دولار. وخلال الفترة الأخيرة، انتشرت مقاطع مترجمة إلى العربية من برامج بودكاست عالمية شهيرة تتناول موضوع إطالة العمر الصحي والفروق بين العمر البيولوجي والعمر الزمني، إضافة إلى أحدث تقنيات مكافحة الشيخوخة. ورغم أن هذه المعلومات سبق أن تناولتها صحيفة «الوطن» في مقالات وتقارير وفيديوهات منذ سنوات، إلا أن تفاعل الجمهور كان أكبر عند طرحها من مصادر أجنبية، وكأن المثل الشعبي القديم يتجدد اليوم: «مزمار الحي لا يطرب»، ومع ذلك، فإن ازدياد الاهتمام الشعبي بهذا العلم يُعد ظاهرة إيجابية، لأنه يعزز وعي المجتمع بأهمية التوجهات الصحية المستقبلية، حتى وإن جاء هذا الاهتمام متأخرًا عبر ترجمات خارجية. الفقير إلى الله كاتب هذا المقال، أسس منذ سنوات واحدًا من أوائل البرامج الأكاديمية الجامعية في العالم للدراسات العليا في علم إطالة العمر الصحي ومكافحة الشيخوخة خارج المملكة. وكان الهدف وضع برنامج علمي راسخ يجمع عناصر هذا المجال تحت مظلة أكاديمية واحدة، ويؤسس لنواة علمية تُخرّج علماء وأطباء متخصصين. لكن من المثير أن بعض الأطباء السعوديين ممن اطلعوا على هذا العلم في المؤتمرات العالمية واجهوا مقاومة شديدة عند عودتهم من زملائهم التقليديين، الذين هاجموا المجال ووصفوه بالخارج عن المألوف الطبي. ويحكي لنا أحد كبار الأطباء السعوديين، وهو صاحب مكانة علمية مرموقة، أنه تعرّف على الطب التجديدي وإطالة العمر الصحي في مؤتمرات بالخارج قبل سنوات، فاندهش من حجم التطور والإمكانات المستقبلية التي يتيحها هذا المجال. لكنه، حين عاد إلى المملكة محمّلًا بالحماس، فوجئ بمواجهة شرسة من بعض زملائه التقليديين الذين حذّروه صراحة من تبنّي هذا التوجه أو الترويج له، معتبرين أن ظهوره سيقوّض ثبات تخصصاتهم القديمة. ويضيف: «رغم مكانتي العلمية، لم أستطع مواجهة هذه الموجة علنًا، فاخترت أن أستمر في حضور المؤتمرات والورش العالمية عامًا بعد عام، حتى أبقى مواكبًا، لأنني كنت أعلم يقينًا أن هذا المجال سيصبح علم المستقبل». هذه المفارقة كشفت أن «الصحوة» لم تكن حكرًا على الفكر، بل حتى في بعض تخصصات الطب التي قاومت التحديث والتجديد، رغم أن العالم كان يمضي بخطوات متسارعة في الاتجاه نفسه. غير أن إحدى نِعَم السعودية الكبرى تكمن في قيادتها ذات الرؤية الإستراتيجية الاستثنائية. فقد أدركت القيادة، ممثلة في ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن إطالة العمر الصحي ومكافحة الشيخوخة يمثلان أحد أهم مفاتيح المستقبل. فجاءت مبادرة «هيفاليوشن» العالمية لتدعم الأبحاث وتؤسس لمرحلة سبّاقة على مستوى العالم، متجاوزة حتى كثيرًا من المتخصصين في القطاع الصحي. إنها مبادرة ليست فقط طبية أو علمية، بل مشروع حضاري يعكس طموح السعودية في أن تكون في قلب صناعة المستقبل. وهكذا، بينما ينشغل زعماء العالم اليوم بالحديث عن عمر الإنسان الممتد حتى 150 عامًا، يمكننا أن نقول بثقة إن «الوطن» السعودية قد سبقتهم بوعيها ورؤيتها ومبادراتها، لتؤكد مجددًا أنها لا تكتفي بمتابعة اتجاهات العالم، بل تصنعها.