ليس من هدف هذا البحث الخوض في أصول الألفاظ في اللغات التي اصطلح على تسميتها تجوزًا بالسامية، ولا عقد دراسات عن اختلاف الدلالات المعنوية وتطورها في تلك اللغات، فهذا تيه ضرب فيه كثيرون وأحسبهم لم يصلوا فيه إلى غير الظن أو الترجيح ولكن هدف هذا البحث محصور في جلاء الدلالات الاصطلاحية لألفاظ بعينها هي: الصحراء، والبادية، والقبيلة، والأعراب، والبدو. والفهم الصحيح لهذه الألفاظ أساس لفهم البيئة الجغرافية العربية، وبغير فهم البيئة الجغرافية وتصورها تصورًا واضحًا لا تستقيم بين أيدينا دراسة الحياة الاجتماعية والحضارية والأدبية لأمتنا منذ جاهليتها حتى يومنا هذا. وتدعو عوامل متعددة إلى توضيح هذه الألفاظ ودلالاتها الاصطلاحية منها: أن ما كتبه بعض علمائنا كان متأثرًا بفهم نفر من علماء الاجتماع والتاريخ الأجانب لهذه الألفاظ في بلادهم وبيئاتهم، وصورتها عندهم مخالفة لصورتها عندنا: فالقبيلة عندهم، أو البدو، أو الرحل، كانت تغلب عليها صورة القبائل المتوحشة الهمجية الغازية التي كانت تتنقل في مواطن من أوربا في عصور معينة، واكتسحت أمامها بعض الحضارات التي كانت قائمة حينئذ. في حين أن صورة القبيلة عندنا في الجاهلية الأخيرة وما بعدها تختلف في نظامها، وتكوينها، وحياتها الاجتماعية، وعلاقاتها، وبيئاتها، ومستواها الثقافي عن تلك الصورة، وهو ما سنوضح جوانب منه. ومن تلك العوامل: أن بعض الذين كتبوا منا عن دلالات هذه الألفاظ، لم يروا منها شيئاً في حياتهم، ولم يكونوا من أبناء البيئة نفسها، فهم من أبناء الحاضرة الذين عكفوا على كتبهم أمام مكاتبهم بين جدران غرفهم. ومهما يبذل مثل هؤلاء من جهد مقدور، فإنهم عاجزون عن الوصول إلى حقيقة الفروق بين هذه الألفاظ وتصورها تصورًا صحيحًا. ومن تلك العوامل أيضًا: أن كثيرًا من معالم صور هذه الألفاظ، التي ظلت قائمة عصورًا طويلة، لا تزال مستمرة في حياة بعض بيئاتنا إلى اليوم في غير الحواضر وأطرافها، ولكن هذه المعالم أخذت منذ عهد قريب تختفي أو تغيم بحكم زحف الحضارة الحديثة وجهود التحضير المستمرة. فإن لم تبادر منذ الآن إلى دراسة ظواهرها والاستفادة منها في فهم ما كانت عليه أمتنا، خشينا أن تضيع عنا بعد حين وتعجزنا وسيلة المشاهدة والمعرفة الشخصية في تصور ما كان مما هو كائن إذا كان مثله أو شبيهًا به. ومنها: أن القدماء أنفسهم في مؤلفاتهم اللغوية والأدبية والتاريخية والبلدانية لم يقفوا عند هذه الألفاظ وقفات متأنية تكشف عن حقيقة مراميها ودلالاتها، بل جاءت بعض هذه الألفاظ - فيما يبدو لنا الآن - متداخلة الدلالات يشيع بينها الخلط والاضطراب بين التعميم والتخصيص، والتقييد والإطلاق، حتى أصبح تمييزها وتحديدها عسيرًا يحتاج إلى تكلف جهد شاق لتمحيصها وفحصها، ولا يتأتى ذلك إلا لمن عاش في بعض هذه البيئات وشهد صورتها الحديثة، قبل انطماس جميع معالمها. وإن كان ذلك يتطلب حذرًا شديدًا حتى لا تتغلب أحكام الحاضر ومقاييسه على ماض قد يختلف عنه من بعض جوانبه، كما يتطلب بصرًا دقيقًا بمعرفة وجوه التشابه ووجوه الافتراق بين البيئات في العصور المختلفة. ومن هذا العامل الأخير - وهو اختلاط دلالات هذه الألفاظ واضطرابها في كتب القدماء. فلفظ «الصحراء لم يكن شائعًا عند القدماء بالمعنى الذي أصبح يغلب عليه في استعمالنا اليوم في بعض بلادنا من الدلالة على البقاع الرملية أو التي تكثر فيها الرمال، كقولنا: صحراء سينا، والصحراء الشرقية، والصحراء الغربية، وصحراء الربع الخالي، وصحراء النفود. وإنما كانوا يدلون على هذا المعنى - في الأكثر - بقولهم: «الرملة» أو «الرمل» أو الرمال، ولا نكاد نجد في وصفهم ل «عالج»، أو «الدهناء» أو «يبرين» أو «الأحقاف»، أنها «صحراوات»، ولكنهم يصفونها بأنها «رمل» أو رمال.. ولم تكن «الصحراء، إلا كما نقل الأزهري عن الليث، قال: «الصحراء: الفضاء الواسع، وأصحر القوم: إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء». ولا تزال لفظة الصحراء تستعمل في بعض بلادنا العربية للدلالة على هذه المعاني المعاني أو ما يقرب منها. وحين كانوا يذكرون (الصحراء) في شعرهم لم يكونوا يعنون دائمًا أنها رمال. 1976* * كاتب وباحث أردني «1922 - 2015».