لم يعد «الاقتصاد الأرشيفي» مجرد رفوف مكدسة بالوثائق القديمة، بل مورد اقتصادي حقيقي، من موارد اقتصاد المعرفة. تتصدر بريطانيا هذا المجال من خلال الأرشيف الوطني البريطاني (The National Archives)، الذي يقدم نموذجا عالميا في استثمار الوثيقة كسلعة معرفية وخدمة بحثية ذات مردود مالي مستدام. وفقا لتقرير وزارة الثقافة والإعلام والرياضة البريطانية لعام 2018، فإن القطاع الأرشيفي البريطاني يسهم بنحو 0.4 مليار جنيه إسترليني سنويا في الاقتصاد البريطاني بشكل مباشر، ويخلق آلاف الوظائف في مجالات الحفظ الرقمي، التوثيق، التعليم، والنشر. كما يوفر الأرشيف البريطاني خدمات رقمية مدفوعة مثل الوصول إلى الوثائق الرقمية، التراخيص التجارية، والنسخ المعتمدة من الوثائق النادرة، وهي خدمات تشكل ما يقارب 40% من إيراداته السنوية. ما يثير الانتباه أن الأرشيف البريطاني لا يقتصر على الوثائق المحلية، بل يحتفظ بنسخ من المراسلات الرسمية للدول الأخرى خلال الحقبة الاستعمارية أو علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع المملكة المتحدة، مما جعله مركزا دوليا للباحثين والصحفيين وصناع الوثائقيات. فهو يمتلك، على سبيل المثال لا الحصر، مخاطبات رسمية بين حكومات دول الخليج العربي وبريطانيا، إضافة إلى تقارير استخباراتية عن الأوضاع السياسية في آسيا وإفريقيا. هذه الوثائق يتم تحليلها ودراستها واستغلالها اقتصاديا ومعرفيا في إنتاج محتوى مرئي أو مؤلفات أو حتى دورات تدريبية. التجربة البريطانية ليست الوحيدة. ففي فرنسا، يقدر الأرشيف الوطني الفرنسي أن خدماته الرقمية قد ولدت نحو 13 مليون يورو من العوائد، خلال خمس سنوات، من خلال الترخيص والنشر والتعليم والتعاون مع شركات الإنتاج الثقافي. أما في الولاياتالمتحدة، فإن الأرشيف الوطني (NARA) يرتبط بشراكات مع شركات مثل Ancestry.com وFold3، حيث تتم رقمنة الوثائق التاريخية وبيع الاشتراكات البحثية، وقد بلغت قيمة بعض هذه العقود أكثر من 10 ملايين دولار. في هولندا، تبيع مراكز الأرشيف الحقوق الرقمية للصور والمراسلات ضمن قاعدة بياناتها الوطنية، وتقدم خدمات استشارية للقطاع الخاص في إدارة الأصول الوثائقية، مما أسهم في خلق أكثر من 1.500 وظيفة دائمة، خلال العقد الماضي، في قطاع الأرشفة الرقمية. وتبرز أيضا تجربة كوريا الجنوبية التي أنشأت الوكالة الوطنية للحفظ الرقمي، والتي أدمجت في اقتصاد الابتكار، حيث تدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي بتحليل الوثائق التاريخية لاستخدامها في تدريب النماذج اللغوية المحلية، ما يجعل من الأرشيف مادة إستراتيجية لتطوير تقنيات المستقبل. إذًا، حين يدار الأرشيف برؤية اقتصادية، لا يبقى مجرد ذاكرة صامتة، بل يتحول إلى رافد اقتصادي وثقافي وسيادي. من يملك الوثيقة يملك رواية التاريخ، ومن يملك رواية التاريخ يستطيع تسويقها، تعليمها، وبيعها. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في عالمنا العربي: متى نحول ذاكرتنا من عبء إلى مصدر دخل؟ من خزانة مغلقة إلى صناعة ثقافية مستدامة؟ الجواب يكمن في بناء تشريعات تنظيمية للأرشيف، وتمكينه من الدخول في السوق الثقافية، وتحويله إلى عقل اقتصادي ناطق بلغة العصر.