سمعت عن 3 مثقفين سعوديين على السرير الأبيض. وزاد من حدة الكآبة المفاجئة أن هؤلاء الثلاثة اعتزلوا الحياة العامة، يدارون تعبهم وهمومهم الذاتية. كل واحد منهم انصرف عن المشهد الثقافي حتى استبطأ متابعوهم ظهورهم وحضورهم، فسألوا فعلموا عن حالهم، والكل يبتهل إلى الله في حالة وجدانية صادقة، اختلف معهم أم اتفق، لأنهم قامات وطنية صادقة ستشيد بها الأجيال الجديدة بإذن الله.. الأول إبراهيم البليهي.. مفكر وكاتب في نظرية المعرفة. عرفته أيام الجامعة معرفة قارئ لكاتب ثم معرفة شخصية. عُرف بانضباطه التام في الحياة، حياته الشخصية والعملية. ويظهر هذا الجد في أسلوب مقابلاته الشخصية الذي يتقد حماسة في بلورة الفكرة الصادمة التي تخمرت من تجاربه التأملية في قريته (الشماسية)، والعملية في وظيفته التي عجنت خبرته بالناس. إبراهيم البليهي عرّف القارئ بفلسفة العلوم، وعلم الاجتماع المعرفي، وكتب في مجالات غائبة عن الوعي الجمعي حتى بسّطها للقارئ العادي، وشاعت في أساليب مطارحات الشباب وأدبيات الرأي الجمعي. ومن هنا استطاع أن يدبج مقالات رصينة ذات منهج، وصالحة لأن تنتهج في الجامعات لتأسيس عقول الطلبة في كل التخصصات، وبالذات فيما يتعلق بفلسفة العلوم. وقلما كاتب سعودي من جيله اشتغل في هذا الحقل دهرا من الزمن، وبانتظام حتى ترسخت أفكاره في عقل كل مبتدئ في دوائر التفكير العلمي. ويواصل هذا الكاتب جديته الصارمة في إصدارات رصينة وأعمال بالغة العمق والبساطة بدءًا من (بنية التخلف)، وانتهاء ب(حضارة معاقة). هذا في حقل العلم والفكر، أما حياته العملية التي استحوذت على جل طاقته في مثابرة ودأب، وحرارة وطنيته في تقديم أقصى ما يمكن إبان ترؤسه لأمانة البلديات المختلفة مذ تعيينه بعد تخرجه في بلدية حوطة بني تميم ثم بلدية خميس مشيط ثم حائل ثم مدير عام الشؤون البلدية في الشرقية ثم القصيم، وانتهاء بعضوية مجلس الشورى. وأنهكته الوظيفة، وليست هي في حد ذاتها، وإنما غوغاء الناس وجهالهم، وتجار الريال الذين رأوا فيه عقبة في تنفيذ مصالحهم بتطبيق النظام ومنع كل فاسد من المرور حتى كلّ ومل، وقال لي بتحسر: «ندمت على الوظيفة، وتمنيت لو أن عملت في السلك الأكاديمي..»، فتخيل أن لو كان هذا المتوقد عقلا ونفسا يعمل في الحقل العلمي منذ العشرينات من عمره فأي موسوعة تزدان بها المكتبة العربية ! الثاني هو الدكتور سعد الصويان، المثقف والباحث الانثروبولوجي العجيب. عرفته من خلال لقاءاته الثرية المفعمة بالدهشة، وهو الشخصية التي استطاعت نقل الثقافة الشعبية إلى مكانتها الأكاديمية، حتى ألّف فيها كتبا أصيلة ذات منهجية صلبة، وروافد مرجعية مؤسِّسة، ونسيجا أصيلا في الأدب المحلي الطامح للأدب العالمي، والفلكلور الخاص بتلك البيئة التي صنعت من الأدوات الشحيحة فنا متفردا قائما بذاته مختلفا اختلافا نوعيا عن غيره. وأهمها العرب الأوائل والأواخر والصحراء العربية، رغم أهمية غيره، وهو يستحق شخصية العام الثقافية بجدارة، كما استحق جائزة الشيخ زايد. الثالث هو الدكتور تركي الحمد، الأكاديمي والكاتب المثير للجدل في رواياته وتصريحاته على وسائل التواصل الاجتماعي. عرفته دمثا رقيقا متواضعا سخي النفس، أصلته الدنيا بحلوها ومرها. عاش حياته كما يريد هو لا كما يريد الناس، وسجلت كتاباته الروائية والصحفية قناعاته وآراءه الفكرية وبإصرار، وإن واجهت نفسه الحسّاسة سعير الصحوة حتى رمته عن قوس واحدة. هذا الكاتب الروائي أسهم في تحريك مياه آسنة لسنوات، ورفع شراع معارك تناسلت إلى معارك جانبية وأخرى كبرى، حتى اضطُر طلبة الثانوية للتعرف على معنى «الرواية» ومعنى «علماني» و«راديكالي» و«إسلاموي» و«صحوي» و«سروري».. إلخ من المصطلحات التي بعثرتها تلك الأيام الخوالي من الثراء الفكري والصراع بين الحداثة والأصالة وما بينهما. ومن أروع كتابات الحمد الناضجة، ثلاثية «أطياف الأزقة المهجورة»، ورواية «شرق الوادي». وهما الروايتان اللتان انقدح بهما شرر النقد الروائي المحلي فتحركت شهية المواهب الشابة للكتابة الإبداعية وغيرها للنقد، حتى تطفل نقاد الشعر لنقد الرواية بعدما انحسر الاهتمام إلى جانب القص محليا وعربيا. ولو أخلص الحمد للرواية واحترفها لربما تسنم قمة الرواية السعودية لأنها توافرت على الدين والحب والسياسة الثلاثي الذي بفقد واحد منها تصبح الرواية عرجاء غير مستوية على أصولها. هذا غير كتاباته في الصحف في الفكر والسياسة والشأن المحلي فاختصرها بأيقونته وكتابه البديع (السياسة بين الحلال والحرام)، ومشاركاته الملتهبة في التسعينيات في مهرجان الجنادرية، والفضائيات العربية. وما جلبت له الثقافة غير البؤس والمقت والخوف والتلفت يمينا وشمالا، ليهرب مرة إلى شقته في لبنان، ومرة في فندق منزو في الرياض، حتى مال كثير من أصدقائه المثقفين مع رياح الصحوة اتقاء رشق الشرر والحسابات الشخصية. وُمنع من الكتابة، وهُمّش عن منابر مهمة حتى قال بلهجة مأساوية «الحمد لله الذي أغناني بمالي عن عطايا الإعلام وإلا تسولت كما تسول غيري من المناضلين في حرية الفكر..». المهم.. بغياب أمثال هؤلاء الثلاثة يصبح القارئ الجاد الباحث عن الجدل المعرفي المحلي على الأقل في غربة ثقافية، يتلفت بتلقائية عطشى إلى الكتابات اليانعة المستوية الفكر، والمحكمة في العقل الناضج، حتى انحدرنا في هذه الآونة إلى الترهل الثقافي، فتقدم المادة الجيدة جدا من خلال شخص تافه، يفسد ملامحها ويشوه ذائقتها الإبداعية. كيف ل«فلان» الشاب الهزيل ثقافة وعلما أن يقدم المتنبي في بودكاست لساعتين اثنتين، أو متحدث في لقاء عن تاريخ المملكة أو التاريخ السياسي للعصر الحديث وهو غض الإهاب لم يتشرب التاريخ ولا قوانينه وفهم سننه، يتكلم بثقة مطلقة وجسارة تصل إلى التواقح في احتلال مساحة حرة غيره أحق بها منه، أما الكتاب فقد رخص إلى المجانية، والتوزيع بأبخس الأثمان لرخص محتواه وضآلة مضامينه. وهكذا تجرّأ المتطفلون على حمى الثقافة حتى أفسدوها، وأفسدوا رقي العلم وجمال الإبداع، وكرّهوا الباحثين في منصات التواصل، حتى حوت كل الغث، بينما الدسم المفيد مختبئ في غياهب المزبلة الإلكترونية، ينتشله من يرفق به فيزيل عنه عثاء الغبار والكلس فيعيد إصداره وعرضه من جديد.. الغريب أن مؤلفي كتب وأكاديميين يتجملون مع أوباش الثقافة في منصات عابرة طمعا في مدحه أو إشادة لأن متابعيهم بمئات الألوف، والكارثة حينما يتمسح المثقف النابه بمشهور سناب ليختصر له الطريق في الشهرة في حالة مأساوية تثير الشفقة ووضع مهين لا يسر. وقد يختبئ كثير من الكتاب العقلاء وراء الأسوار لأنهم قنطوا من الوضع المرير، وقد لا تسعفهم أدواتهم الإعلامية لركوب قاطرة الميديا المسعورة فانتكس بهم اليأس ورضوا بالسكينة، وتواروا خلف همومهم اليومية، لأن حساسيتهم لا تطيق النظر إلى المسرحية الهزلية المثيرة للتقزز والغثيان. فمثل هؤلاء الثلاثة، لا ينتظر لهم تقدير من الرعاع، والتقدير الواجب لكونهم قامات وطنية صادقة، قدمت ما قدمت في أجواء مكهربة وظروف ضدها، وفيح من عداوات متربصة، وقلة ذات يد، وتعفف عن مطالبة حق مشروع، حتى يبقى في الظل فينتشله صدى صدور كتاب جميل أو لقاء ماتع، أو فكرة رائدة في وسائل التواصل فتشرئب له الأعناق رغما عنها. هؤلاء.. وإن اختلفت مشاربهم وآراؤهم، هم الأجدر بالريادة والتكريم، وكتابة السيرة والتعريف، وبحث أبحاثهم في الوطنية، ودراسة فهومهم في تأسيس ثقافة الوطن الراسخة، وإشارة عابرة في مقررات التعليم، ونقطة لامعة في عقول الأجيال الجديدة.