المملكة العربية السعودية، مذ شرّفها الله بحمل أمانة الحرمين الشريفين، تمضي على صراطٍ من الحكمة، وتبسط على ضيوف الرحمن جناحًا من الرحمة، فتسوس الشعيرة بسياسة الشرع، وتحرس قدسيتها ببأس النظام، وتصون أمنها بعينٍ لا تنام وسيفٍ لا يُغمد. فليست رعاية الحجيج عندها تدبيرًا إداريًا عابرًا، بل هي ولاية شرعية، وعبادة موصولة، وسدانة إيمانية تتعاهدها القيادة من منطلق العقيدة، وتنهض بها عن يقينٍ، وتؤديها عن تقوى، وتذود عنها بعزمٍ لا يلين. وما أصدق الموازنة حين تُدار الشعيرة بمنهاجٍ يجمع بين قداسة الدين وهيبة الدولة، فلا تُترك نهبًا لأهواء العابرين، ولا ساحةً لهتافات الغوغاء والمتربصين. كان الحج - قبل أن تنهض الدولة السعودية برسالة التوحيد - نهبًا للاضطراب، ومسرحًا للفرقة، ومرتعًا للغلاة والمفتونين. يُسلب الحاج في الطريق، ويُرهب في المشاعر، وتتنازعه الولاءات المتناحرة، والرايات المتكاثرة، فلا أمنٌ يستقر، ولا نظامٌ يُحتكم إليه، حتى آل الأمر إلى نفور كثيرٍ من المسلمين عن أداء الركن الخامس، خيفةً من الفوضى وطلبًا للسلامة. وكانت الشعيرة ميدانًا للعبث، تُستغل منصةً للتحريض، وتُبتذل أداةً للصراعات، ويُغتال فيها الخشوع تحت سنابك الطمع السياسي والتأجيج الطائفي. حتى إذا شاء الله أن يبعث من قلب الجزيرة قائد التوحيد وباني الدولة، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رفع الله ذكره - استتبّ الأمن، واستُعيدت الهيبة، واستُرجعت السكينة إلى الحرم، فصار الحج مأمون الطريق، محفوظ الحرمة، يجري في مدار الشريعة، وتحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومنذئذٍ، أقامت المملكة سدًا منيعًا أمام كل محاولةٍ لتسييس النسك، أو تحويله من عبادة خالصة إلى مظاهرة عابثة، ومن دعاءٍ وابتهال إلى هتافٍ وجدال. فالحج لله وحده، لا لحزبٍ يُروّج، ولا لشعارٍ يُرفع، ولا لرايةٍ تُرفرف فوق قداسة المقام. لا يُبتغى فيه إلا وجهه، ولا يُسمع فيه إلا ذكره، ولا يُؤدى إلا على منهاجه. ومن هنا جاء ضبط الشعيرة نهجًا مرعيًا، وسنةً ماضية، ومبدأً لا يُساوَم عليه. فيا له من فقهٍ باهر، حين تنتظم الطاعة في سلك النظام، وتتماهى السكينة مع الأمن، ويُحاط الحاج بعين الرعاية، ويُساق إلى المناسك بسكينةٍ ويقين. فما اشتراط التصاريح، وتنظيم التفويج، ومراقبة الحشود، إلا تحقيقٌ لمقاصد الشريعة في حفظ النفس، وصون الشعيرة، ودرء الفتنة عن بيتٍ عظّمه الله، ورفع ذكره، وجعله مثابةً للناس وأمنًا. وقد أجمعت كلمة العلماء الراسخين، وعلى رأسهم هيئة كبار العلماء، أن تلك الإجراءات من كمال الدين، وتمام السمع والطاعة لولي الأمر، ومن تمام العبودية لله رب العالمين. وما برحت القيادة السعودية - حفظها الله - تصدع بالحق، وتعلن بلسان الحال والمقال أن الحرم لا يُدنس بالتحزّب، وأن الشعيرة لا تُبتذل بالهتافات، وأن خدمة الحاج ميدان عبادة، لا ساحة مزايدة. فهي لا تستعرض القوة، بل تقيم الأمانة، ولا تُقصي أحدًا عن البيت، بل تُقصي الفتنة عن البيت، وتغلق أبواب الغلوّ والتسييس، وتفتح أبواب الرحمة والسكينة والطهر. هكذا هي المملكة: حارسةُ الحرم، ساهرةُ الليل لحراسة أمنه، باذلةُ الجهد في راحة ضيوفه، ناصحةُ للأمة، ومُحققةُ لمعاني التوحيد في أشرف مشهدٍ من مشاهد الإسلام. فلله درّها من قيادةٍ أقامت الحقّ في محرابه، وأعلت النظام في محرمه، وصدحت بالتوحيد في أقدس بقاع الأرض، وحفظت الحُرمة في زمانٍ كثرت فيه المهاترات، وقلّ فيه الوفاء للمقدسات.