في لفتة ذات معنى بالغ العُمق، نَصَبتِ السلطاتُ الفرنسية في أثناء تنظيمها الألعاب الأولمبيّة العام 2024، عشرة تماثيل مطليَّة بالذهب، ارتفاع كلّ واحدٍ منها أربعة أمتار، في محيط مبنى الجمعية الوطنية، وذلك لتخليد ذكرى نسوة كان لهنّ الدَّور الكبير في التاريخ الفرنسي، من بينهنّ سيمون دو بوفوار. يلوح في الخاطر لدى ذكْر سيمون دو بوفوار التي شغلتِ العالَم في العقدَيْن الخامس والسادس من القَرن المُنصرِم، أنّ تكريمها من بين عشر نساء فرنسيّات خالدات هو أمر لا ينال إجماعًا بين المثقّفين: أوّلًا بسبب انتمائها إلى تيّارٍ فلسفيّ تفجَّر سائلًا بسبب الحرب الكونيّة الثانية، وأصابَ جداولَه اليباسُ مع رحيل رموزه، فباتَت محطّته النهائيّة رفوف المكتبات؛ وثانيًا لأنّ دو بوفوار نفسها لا تعدو كونها رفيقةَ فيلسوفٍ ذائع الصيت هو جان بول سارتر، توسَّدت القسطَ الأكبر من حياتها في حضنه الفلسفي، وسطعَ نجمُها من خلال الأضواء التي كانت مسلَّطة عليه أينما ذهب؛ وثالثًا بسبب ما يراه كثير من الفلاسفة عجزًا من طَرَفِ دو بوفوار عن إنتاج نصٍّ فلسفيٍّ، وتفرّغها في تقديم شروحاتٍ لأفكار رفيقها موجَّهة إلى الشارع الفرنسي ووسائل الإعلام بعيدًا من الحلقات الأكاديميّة والفكريّة المُختصّة؛ وأخيرًا نتيجة تبلْور صورة نمطيّة لها في عيون الكثيرين بوصفها امرأة تجاوزَتْ في العلاقة بالآخر حدودَ المقبول والمُتعارَف عليه في زمانها. لا ريب أنّ صاحب السِّفر الكبير «الوجود والعَدم» (1943) كان بالفعل أيقونةً فلسفيّة عالَميّة ورمزًا لتيّارٍ فلسفيٍّ تجاوَزَ حدودَ فرنسا أَطلق عليه الفيلسوفُ والأديبُ الفرنسيّ غابرييل مارسيل مسمّى الوجوديّة. ولعلّ مارسيل حين وَسَمَ إنتاجَ رهطٍ من الفلاسفة، على تبايُنِ اهتماماتهم، بالوجوديّين، فإنّما هو قامَ بذلك لِلَمْسِهِ خَيطًا رفيعًا شدَّ هؤلاء إلى بعضهم البعض، تمثَّل في جعْلهم مفهوم الحريّة النواة الصلبة لنشاطهم الفكري. غير أنّ سيمون دو بوفوار نالت بدَورها شهرةً عالميّة حين أَصدرت كتابَها «الجنس الآخر» بجزئَيْه في العام 1949 عن دار غاليمار، والذي تجاوزتْ مبيعاتُه بعد خمسةٍ وسبعين عامًا من صدوره مليونَ نسخةٍ، وجرتْ ترجمتُهُ إلى أغلب لغات العالَم، وظهرتْ منه في العربيّة أربع ترجماتٍ مُختلفة، وتحوَّلَ الكتابُ إلى ما يشبه الأرضيّة الصلبة لتيّار النسويّة الفضفاض. وتستند أهميّة كتاب «الجنس الآخر» إلى أنّه شكَّلَ صدمةً للعالَم بأسره عند صدوره، فقد قَلَبَ رأسًا على عقب الكيفيّة التي كان يَنظر من خلالها كلٌّ من الذكر والأنثى إلى العالَم، وفَتَحَ آفاقًا جديدةً للعلاقة بين الرجل والمرأة. وتأثيرات الكِتاب التي كانت أشبه ما تكون بزلزالٍ فكريّ، تلقي في النَّفسِ الدهشةَ متى ما عَلِمَ المرءُ أنّ دو بوفوار احتاجت إلى ثمانية عشر شهرًا لإتمامه فقط، وهي فترة زمنيّة قصيرة للغاية، تَعكس البراعةَ الفكريّة لسيمون دو بوفوار. كما أنّ نشأتها في بيئةٍ كاثوليكيّة مُتزمِّتة، مع ما يتضمَّنه ذلك من مفاهيم تُطوِّق عقلَ الأنثى، مثل «دَنَس الجسد»، ذلك كلّه يَجعل منابع سيرتها الأولى تكتسي شكلًا أسطوريًّا. في مذكّراتها التي توارتْ أجزاءٌ منها وراء رواياتٍ أدبيّة، تشير دو بوفوار إلى سؤالٍ ظلَّ يُلاحقها ويَدفعها إلى التفكير في معنى كونها امرأة. وربّما تكون قد وقعتْ في تلك الفترة تحت تأثير كتاب «الرجولة: رحلة من الطفولة إلى منظومة الذكورة الشرسة» للسوريالي ذائع الصيت ميشيل ليريس، والصادر في عام 1939، مع تمهيدٍ لترجمته الإنكليزيّة التي قامَت بها المثقّفةُ الأمريكيّة «سوزان سونتاج». وكان ليريس قد أصابَ آنذاك شهرةً كبيرة وتأثيرًا بالغًا. ولعلّ دو بوفوار رغبتْ بعدَ قراءتها كتاب ليريس أن تحذو حذوه في كتابة ما يعنيه أن تكون إحداهنّ امرأة. والمرء حين يتمعَّن في كتاب «الجنس الآخر»، سيَتلمَّس تأثيرَ سارتر في بعض المواضِع، لكنّه يبقى تأثيرًا محدودًا للغاية. فالكتاب يستقي أفكاره من مَشارِب مُتعدّدة، ويُمكن بوضوح رؤية ظلال تيّاراتٍ فكريّة مُتباينة تتحرَّك في فصوله كلّها، كما تتجلّى خلاصات حوارها مع مُجايليها من المفكّرين وخبراتها كامرأة ومُعاشرتها للكثير من الأصدقاء. متن فكري لأطروحات سارتر لم تُصرِّح دو بوفوار يومًا بأنّها فيلسوفة بالمعنى المُتعارَف عليه، وقد نَفَتْ مُمارستَها للنشاط الفلسفيّ كمهنةٍ أساسيّة لها، بل ذكرتْ بشكلٍ صريح لا لَبسَ فيه، أنّ سارتر كان فيلسوفًا، بينما هي مارَستِ الكتابةَ الأدبيّة. وهذا الأمر فجَّرَ بلْبَلةً في أوساط الحركات النسويّة، إذ رأت فيه بعضهنّ خضوعًا يستحيل تبريره للهيْمنة الذكوريّة، وبأنّها جعلتْ من الفلسفة قارّةً لا يدخلها سوى الرجال. غير أنّ الأمرَ في حقيقته ليس كذلك. فمَن يَقرأ نصوصَ دو بوفوار بعقلٍ مُنفتح وبتوسُّعٍ، سيَخرج بنتيجةٍ مفادها أنّ هذه المرأة مارستِ التفكيرَ الفلسفيّ منذ صباها، وقَبل تقديمها لاختبار الأستاذيّة الشهير في عام 1929، حتّى آخر سنين عُمرها. كما أنّها حرصتْ على أن توضح أيّ طرازٍ من التفكير الفلسفي كانت تمارسه. فعلى سبيل الإحاطة في مقالٍ مُهمٍّ لها بعنوان «الأدب والميتافيزيقا»، الذي ترجمه أسعد العربي ونَشَره في مجلّة «الآداب» البيروتيّة في عام 1954، تُشدِّد دو بوفوار على وجود صنفَيْن من المُشتغلين بالفلسفة، أوّلهما فلاسفة ينفقون فكرهم في تشييدِ «منظومة» فلسفيّة متكاملة الأركان، وثانيهما فلاسفة تشدّهم الذّات الإنسانيّة فينبرون إلى استكناه خباياها وتناقضاتها. وهي لا تخفي انضمامها إلى المجموعة الأخيرة بقولها: «إنّه من العَبَثِ إضاعة الوقت في صناعة مذاهب فلسفيّة». وثمّة مشقّة بالغة يُعانيها مَن يروم إحداث فَرْقٍ وتمييز بين أفكار سارتر ودو بوفوار بسبب العلاقة الفكريّة والرومانسيّة التي جمعتهما طوال حياتهما. فالاثنان، في لقائهما الأوّل عند متحف اللّوفر، قَطعا عَهدًا على نفسيْهِما بأن يكونا رفيقَيْ فكرٍ في حياتهما، حتّى وإن خمدتْ حرارةُ «الإيروس» بينهما. فالرفيقان التأَمَ شملُهما في عالَم الوجوديّة بقبولهما الفكرة المركزيّة القائلة إنّ وجود البشر سابق على ماهيّتهم، مع ما تَضمَّنَتْهُ هذه الفكرة من سلبٍ لوجود طبيعة بشريّة مُعطاة سلفًا. وتؤسِّس هذه الفكرة لأخرى تأخذ بتلابيبها، مفادها أنّ المرءَ يصوغ حياته من خلال اختياراته، فكلّ شيء في الحياة، إنّما هو مرهون بالاختيار. ولا بدّ من الإقرار بأنّ كليهما حازَ على طاقةٍ خلّاقةٍ مكَّنته من ربْط الحياة اليوميّة للإنسان بالجوانب الميتافيزيقيّة للوجود. ولئن برهنَ سارتر في نِتاجاته الأدبيّة والفلسفيّة عن مهارةٍ في سَوْقِ تجارب مُلتصقة بالحياة اليوميّة للمرء تعكس عذابات الوجود الإنساني، إلّا أنّ دو بوفوار، وقَبل لقائهما، كانت قد عَرضت أفكارًا مُثيرة للاهتمام عن الحريّة والحبّ، وظلَّت وفيّة عبر الزمن لهذه الأفكار، وهي تشكِّل مَتنًا فكريًّا متميّزًا عن أطروحات سارتر، بل تحمل في أعماقها الدفينة نقدًا لها. هذا ما نلمسه في «بيروس وسيناس»، وهي مقالة فلسفيّة كُتبت في عام 1943 ونُشرت في عام 1944، وتكتسي أهميتها من كونها مفتاحًا لفهْم أعمال دو بوفوار اللاحقة ودرسها الفلسفي. ففي كتاب «الوجود والعدم»، ناقَش سارتر بشكلٍ مستفيضٍ مفهوم الحرية. وذهبت سيمون دو بوفوار إلى أنّ رفيقها قد جانبَ الصواب بقوله إنّ الجميع أحرار، وإنّ معظمهم يفرّ من حريّته بسوء نيّة، في حين أنّ ما يتعيَّن عليهم القيام به هو النَّظر إلى الأمر بشكلٍ مباشر إن كانوا يرومون جعْلَ أنفسهم على النحو الذي يبتغونه. دو بوفوار رأت في عرْضِ سارتر إسقاطًا لحقائق القيود المتنوّعة التي تُعيق حركة البَشَر. وسجَّلت في «بيروس وسينياس» ما رأته مفهومًا أكثر نضجًا للحريّة، مُبديةً غير اعتراضٍ على ما ساقه سارتر من أفكارٍ ترتبط بمفهوم الحريّة في كتابه الكبير. بسطتْ دو بوفوار حلًّا لمعضلة الحرية من خلال تأكيدها على أنّ الفعل الأخلاقي الذي يَجترحه المرءُ، إنّما يَقع العبءُ فيه على ذاته الفرديّة، ولكنْ يتمّ إدراكه عبر علاقاتٍ تبادليّة مع أشخاصٍ أحرار. ورأت أنّها بهذه الطريقة قامَت بتصويب تحليل سارتر للعلاقة المتوتّرة بين الأنا والآخر، والتي أَنزلها أحيانًا مَنزلةَ الجحيم، بحيث تغدو حريّةُ المرء في النَّظر إلى العالَم الموضوعي مُتقلِّصة بسبب نظرة الآخر، تلك النظرة التي تقذف في دخائل نفس المرء شعورًا بأنّه ليس سوى كيانٍ مُتشيّئٍ في ذهْن الآخر. وقالت دو بوفوار إنّ هذا التوتُّر الشائك بين الذات والآخر تتمخَّض عنه نتيجةٌ إيجابيّة هي الاعتراف بأنّ حريّة الفرد تحتلّ مكانةً مركزيّة، بحيث يغدو ذلك إقرارًا بالقيَم المُشترَكة بين الأفراد كافّة. والعرض التفصيلي الذي قدَّمَتْهُ في كتابها «أخلاقيّات الغموض» الصادر في العام 1947، يقرّ بشكلٍ واضح بأهميّة فكرة التبادليّة في جوانب التجربة الإنسانيّة جميعها ويَطرح حلًّا للتوتُّر المُصاحِب لها بإعطاء وزنٍ مُتساوٍ لكلا الجانبَيْن، الذّات والموضوع، بحيث تُصبح الحريّة الشخصيّة للآخرين الأساسَ لتحقيق حريّة الفرد. وتَذكر في الكتاب: «بما أنّ الفرد لا يُعرَّف إلّا بعلاقته بالعالَم والأفراد الآخرين، فهو لا يوجَد إلّا بتجاوُز نفسه، ولا يُمكن تحقيق حريّته إلّا من خلال حريّة الآخرين». حاولتْ دو بوفوار ترسيخَ الأخلاقيّات في أنماط التفكير الوجودي، وذلك من خلال إدانة ما اعتبرته روحَ التزمُّت التي انهمكت في صَوْغِ قوانين أخلاقيّة متعالية لا تشدّها إلى تجربة المرء الذاتيّة أيّة صِلات. فالأفراد في نَظرها يميلون إلى اتّفاقاتٍ وتقاليد ومبادئ دينية بعيْنها لأسبابٍ نفعية محضة، ويتفادون أية مسؤولية شخصية، مُتجاهلين في الوقت عيْنه حريتهم الخاصّة. وحقيقة بقاء هذا الكِتاب أسيرَ لغته الفرنسية إلى أن ظَهَرَ مؤخَّرًا مُترجَمًا جَعَلَ جهودَ دو بوفوار في تطوير الفلسفة الوجوديّة مطموسًا. لذا فإنّها أَنجزتْ ما هو أبعد من دحْض أفكار سارتر؛ وصَوْغ الجوانب الأخلاقيّة للوجوديّة كان جهدًا ظلَّت تَعمل عليه بدأبِ سنواتٍ عديدة. ففي عام 1945 صرَّحت في لقاءٍ معها بأنّ الوجوديّة كانت خالية من النّزعة الأخلاقيّة، وأنّها عملتْ على تشكيلها. وبالفعل، فإنّ مُحاضرة جان بول سارتر الشهيرة «الوجوديّة هي الإنسانيّة»، التي ألقاها في نادي ماينتونان في أكتوبر 1947، والتي صدرتْ كمقالٍ في العام نفسه، ترجمَهُ إلى العربيّة عبدالمنعم الحفني في عام 1964، والذي جعلَ الأخلاقَ الوجوديّة مرتبطةً بسارتر، خَضَعَ كنصٍّ لعمليّة تحرير مكثّفة من قِبَلِ دو بوفوار، فضلًا عن استبدالها عنوانه الأصلي «هل الوجودية إنسانية؟» بآخر يحَمل طاقةً إيجابية. *كاتب من الكويت * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.