أشعر أحيانًا أن هناك يدًا غير مرئية تسحبنا بلطف من واقعنا، تسرق منّا انتباهنا دون أن نشعر. نكون في وسط لحظة حقيقية، مع من نحب، أو ربما في عزلة نحتاجها، ثم فجأة، نجد أنفسنا غارقين في بحر لا نهائي من الفيديوهات، الصور، والتعليقات. هذه ليست مجرد عادة سيئة أو ترفٍ تكنولوجي، بل عملية اختطاف ناعمة للعقل والروح. برامج التواصل لم تعد مجرد منصات تواصل، بل تحولت إلى مصانع ضخمة لإنتاج الإدمان الذهني، تصنع محتوى محسوبًا بدقة ليصطادك. تصعد فيها البسمة الاصطناعية والضحكة العالية، وتنتشر فيها المشاهد المقطّعة بطريقة تشبه مقاطع الحلم، لا تدري أين بدأ ولا كيف انتهى، لكنك تعيد مشاهدته من جديد وكأنك تائه بإرادتك. الخطورة ليست في وجود هذه المنصات، بل في طريقة عملها. هي تستخدم علم الأعصاب أكثر من استخدامك له. الخوارزميات لا ترحم، فهي مبرمجة على تتبع نقاط ضعفك: ما الذي يلفت انتباهك؟ ما الذي يغضبك؟ ما الذي يحزنك؟ كل عاطفة تُستهلك تتحول إلى مؤشر في سجلهم، وكل مؤشر يتحول إلى خطة لإبقائك أطول. وهنا تأتي «اللا أخلاقيات»، حين تتحول التجربة البشرية إلى سلعة، والعقل البشري إلى مساحة للإعلان والتهييج. لا يهمهم إن كنت إنسانًا تعاني من فقد أو اكتئاب أو وحدة، المهم أن تبقى. أن تُستهلك. أن تصبح منتَجًا دون أن تدري. أخطر ما في الأمر أن هذه المنصات لا تخبرك أنها سرقت وقتك، لا تُنبهك أن يومك انقضى، ولا تقول لك إن لحظتك مع طفلك قد ذهبت، أو أن تأملك الذي انقطع لن يعود. هي تنسج خيوطها في الخلفية، بينما تظن أنك المسيطر. كم مرة أغلقنا التطبيق ثم عدنا لفتحه بعد ثوانٍ؟ كم من مرة ضحكنا على فيديو، ثم انقلب مزاجنا بسبب فيديو آخر بعدها بثوانٍ؟ هذه ليست صدفة، بل خدعة دماغية محكمة، مبنية على التلاعب بالدوبامين، وتكرار المكافآت الصغيرة التي تبقينا في حالة «نصف وعي». نحن لا نواجه تطورًا تقنيًا فقط، بل مشكلة أخلاقية بامتياز، مشكلة تتعلق بحدود التلاعب بالعقل الإنساني. هل من الأخلاق أن تسرق شركة عالمية انتباهك دون إذنك؟ أن تُصمم تجربة إدمانية دون أن تعترف بأنها كذلك؟ أن تأخذك من نفسك تدريجيًا، حتى لا تبقى إلا صورة تمارس التمرير بيد، والحياة تفوتك من اليد الأخرى؟ نحتاج أن نعيد تعريف وعينا، أن نمارس الصمت قليلًا، أن نلاحظ كيف نُستَدرَج، وكيف نُستهلك. لأن أول خطوة للخروج من الخدعة هي أن نراها كما هي: خدعة، مدروسة، غير بريئة. لكن وسط هذا الضجيج، فينا شيء لا يزال يقاوم. في داخل كل واحد منا مساحة نقية تشتاق للهدوء، للحظة الصمت الصافي، للزمن البطيء الذي لا يركض خلف شاشة. هذه المساحة لا تموت، لكنها تحتاج منّا إلى فعلٍ بسيط: أن نختار. نعم، أن نختار ألا نكون مستهلكين دائمين، ألا ندع المنصة تحدد مزاجنا، أو شكل صباحاتنا. في النهاية، المشكلة ليست في التقنية، بل في طريقة استخدامنا لها، وفي صمتنا عن سياسات الإدمان التي تُمارس علينا. السكوت عن هذه اللاأخلاقيات هو قبول ضمني بها. والوعي بها هو أول خطوة للخروج من عبوديتها. إذا كانت برامج التواصل قد خطفت عقولنا بأساليب دقيقة ومدروسة، فنحن أيضًا نملك حق استعادة أنفسنا. أن نعود للحياة بعيون مفتوحة، وعقل لا يقبل أن يكون أداة في يد خوارزميات. نقلا عن الوطن السعودية