تفتح جهاز التليفزون، تنطلق الموسيقى الحماسية، وصوت المذيع المتأنق يتخللها وهويردد، مالذي تنتظر؟ اتصل الآن لتحقق حلمك، الملايين بانتظارك. صور متتابعة لنقود تنهمر من السماء، ووجوه سعيدة منتشية، يفترض أنها لفائزين سبقوك بالاستجابة للنداء الساحر. أنت تعرف أن تلك المسابقة أقرب إلى عملية نصب فاخرة، لكن الصوت «الملحاح» يطاردك، الابتسامات السعيدة، والحلم الذي ربما يتحقق بحصولك على الملايين الكفيلة بحل جميع مشكلاتك تجعل قناعاتك تهتز، وكل مرة يتكرر فيها الإعلان، ينمو شرخ جديد في قناعاتك الثابتة، حتى تنهار تماماً بعد عدد لابأس به من التكرار، وتجد نفسك متقبلاً فكرة الاتصال التي لا ضرر منها التي ربما تحقق حلمك البعيد. ذلك السيناريو الذي نتعرض له جميعاً كل يوم هو مثال عملي مصغر لمصطلح «البروباجندا». وكيلا نخوض كثيراً في التعاريف الجامدة للبروباجندا فيمكنك اعتبارها أي محاولة للتأثير على الأفراد عن طريق الدعاية المضللة أو المنحازة وغير الموضوعية. تلك البروباجندا قد تكون تجارية محضة كالإعلانات التي تحاصرك كل يوم، وهي رغم فجاجتها تظل أقل ضرراً من الأنواع الأخرى للبروباجندا كالسياسية أو الثقافية أو الدينية، فالأخيرة تتسلل إليك من حيث لا تشعر وتؤثر في قراراتك وأفكارك وتوجهاتك، بل وفي تحديد مصيرك. تتسلل إليك عبر نشرات الأخبار التي تعاد صياغتها بطريقة احترافية أو.. غبية!، عبر البرامج الحوارية التي تُستضاف فيها شخصيات شهيرة تكرر رسائلها بأساليب مؤثرة، عبر عناوين الصحف والمقالات التي تصر على إقناعك بنفس الفكرة وأنه لا صواب سواها. لكن كيف تعرف الفرق بين الحقيقة وبين البروباجندا؟ بين المعلومة التي تزيدك وعياً والعبارة التي تخدرك وتغيب ذلك الوعي؟ يمكنك الاستدلال على البروباجندا بالتعرف على بعض الأساليب التي يمارسها عرابوها، فصانعوا البروباجندا يميلون غالباً إلى مخاطبة العواطف بدلاً من العقل، لذلك تجدهم يجيدون شيطنة وتشويه الأفكار الأخرى، يجيدون التهويل من المصير المظلم لو خالفتهم، يركزون على مهاجمة مصداقية المنافسين بدلاً من مناقشة أفكارهم. صانعوا البروباجندا حريصون على ربط أفكارهم بشخصيات محبوبة وذات شعبية، وإن عدمت تلك الشخصيات فلا بأس من الاستعانه بالسلطة و تصويرها كداعم لا محدود لأفكارهم وعدو لكل من يخالفها. مروجوا البروباجندا يفهمون جيداً نفسية الجماهير، لذا يركّزون على عبارات الأمن والأمان، واختيار الجماعة، والفرقة الناجية بغض النظرعمَّن تكون تلك الفرقة الناجية. ولأنهم يركزون على العواطف فهم يفضلون أن يمنحوك إجابات بسيطة وحاسمة لكل الأسئلة، إجابات من طراز أبيض أو أسود معنا أو ضدنا وهذا خير وذلك شرير.ثم ذلك هو الأهم فإنهم لا يملُّون تكرار ذات الفكرة، التكرار هو اللمسة السحرية التي تأتي بالعجائب. تأمَّل الآن يا صديقي هذه الأساليب وتذكَّر كم مرة مورست أمامك، تذكَّر مواقف كثيرة لاتُحصى في المشهد المحلي تمت فيها تنحية العقل جانباً وتقديس البروباجندا، مواقف مضت كفتنة تعليم البنات، وفتنة البث الفضائي. ومواقف معاصرة ومواقف ستأتي في المستقبل. في أحيان كثيرة تكون البروبجندا هي سبب كوارثنا التي نعيشها.. وكم هو سهل أن نتجنبها لو قررنا فقط أن نبتعد قليلاً عن صخب القطيع وأن نستخدم المادة الرمادية التي تسكن جماجمنا في الحكم على المواقف والأحداث!