«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» آل عمران 104، آية جليلة تحث بعموم لفظها على ضرورة وجود فئة من المجتمع تهب نفسها للدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبخصوص سببها فقد نزلت في فريقين من الأوس والخزرج كادا أن يتقاتلا بسبب ذكرهم لأيامهم وخصوماتهم أيام الجاهلية، وكما ورد في كتب التفسير أن أحد اليهود غاظه مشهد تآلف الحيين وأنشد شعرهم يوم جاهليتهم وتناحرهم، فتجاذبوا الحديث حول تلك الأيام وتفاخروا حتى كادوا أن يقتتلوا، وعندها تدخل الرسول عليه السلام قائلا:»أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟!…», فأنزل الله عز وجل هذه الآيات ابتداء من قوله:«يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين»، وشملت عدة إرشادات نحو السلم الاجتماعي: كقوله» واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» وقوله:»ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا…الآية». وكان قوله تعالى:«ولتكن منكم أمة…الآية» أبرز الأوامر التي تخللت مجموعة التوجيهات. لكن عادة ما يستشهد الفقهاء والوعاظ بهذه الآية في سياق الحلال والحرام و التوجيهات الفردية، وغالبا ما يذهبون إلى الفهم الذي يفيد بضرورة وجود أمة (فئة) محتسبة تدعو إلى كل ما هو خير للفرد وما يتعلق بعباداته وعاداته وحسب, وهذا وإن كان مذهبا فضيلا إلا أنه بعكس ما أتى به سياق الآيات الكريمة, ولا يتفق مع سبب النزول, إذ إن الآيات كما رأينا أتت في سياق السلم الاجتماعي, تعليقا على الحادثة الفئوية التي حدثت عندما كادت أن تنشب حرب قبلية بين أكبر قبيلتين في المدينة, فكانت التوجيهات جلية بنبذ الفرقة والاعتصام بالدين و ضرورة وجود فئة تدعو إلى الخير. وإن كان هناك من يعمل تحت قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» في إسقاط هذه الآية على التوجيه الفردي ومسائل العبادة والمعاملة، فهذا جميل عندما يصاحب الغاية الأولى للآية، لا أن تترك الغاية الرئيسة ويعمل بحسب الفهم العام، فاليوم تجد كثيرا من الخصومات الفئوية والقطرية و المناطقية والطائفية التي تهدد السلم الاجتماعي للأمة ومع ذلك نادرا ما تجد أمة تدعو لنبذ الفرقة قولا وعملا. أنا في رأيي أن أنجع وسيلة لتحقيق هذه الغاية السامية للمحافظة على السلم الاجتماعي ونبذ الخصومات الفئوية هي وجود مؤسسات مجتمع مدني كمجالس منتخبة وبرلمانات ومنظمات حقوق إنسان ونقابات، رسمية لا عشوائية تفتئت على القانون، وتساهم في تحقيق استقرار المجتمعات وقطع الطريق على من يذكي تلك الحرائق الاجتماعية لغايات شخصية محضة. فبعد حقبة الاستعمار ونشأة الدولة العربية القطرية الحديثة كان صمام الأمان الوحيد للمجتمع هو القبضة الأمنية الفردية وما أن تتراخى حتى تصعد الخلافات على سطح المجتمع. اليوم الأمة بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مؤسسات حرة منتخبة تكون «أمة» تدعو للسلم الاجتماعي وحائلا دون تجار الفرقة.