لم يثر تصريح السيد تيم كالن رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لدى السعودية حول ذهاب معظم الفرص الوظيفية التي أتاحها النمو المتسارع للقطاع الخاص خلال الأعوام الخمسة الماضية إلى وافدين بدلاً من السعوديين، الدهشةَ أو الاستغراب لدى المحللين الاقتصاديين أو المتابعين والمهتمين بالشأن العام، فوجود أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات عاطلين عن العمل ليس بالأمر الخفي، ولم يعد قضية خاصة يُعنى بها عدد محدود من المسؤولين، تناقش داخل الغرف المغلقة. فما كتب عنها في الصحف والمجلات أو ما جرى الحديث عنها ومناقشتها في المؤتمرات يظهر بوضوح أن البطالة بين السعوديين مرض عصي لم يوجد له علاج شافٍ حتى الآن، على الرغم من برامج وزارة العمل العديدة الموجهة لمعالجة هذا المرض. وليس هناك في الأفق ما يوحي بأن هذه المشكلة على وشك الحل والانتهاء من تبعاتها وتأثيرها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للشعب السعودي. ومع أنه لا توجد أرقام حكومية واحدة وقاطعة حول عدد العاطلين السعوديين، يمكن الاعتماد عليها حين مراجعة مدى التغيير الحاصل في أعداد العاطلين، إلا أن نسبة 12% التي تتبناها مصلحة الإحصاءات تعد نسبة عالية. وتصريح السيد كالن، هو تأكيد على ما نلحظه ونعيشه ونعاني منه، فخلال سنة 1433 ه انضم للتأمينات الاجتماعية 265063 مواطناً ومواطنة، بينما بلغ عدد غير السعوديين الذين انضموا في برامج التأمينات الاجتماعية الخاصة بهم (الأخطار المهنية) أكثر من مليون وثلاثمائة مشترك، وهو بكل المقاييس رقم كبير مقارنة بعدد السعوديين الجدد الذين اشتركوا في التأمينات الاجتماعية. كما أن معدل الأجر الشهري للسعوديين بلغ 4963 ريالاً، وهو أجر مازال غير كافٍ لرب أسرة يريد أن يبني لنفسه حياة كريمة وآمنة، ولكن إذا استثنينا المناطق الصناعية الرئيسة (الشرقية والجبيل وينبع) والمدن الكبيرة (الرياضوجدة) فمعدل الأجر الشهري لبقية المناطق سينخفض إلى 2100 ريال فقط لا غير، فهل يمكن لهذا الأجر أن يقدم للمواطن الحياة المستقرة؟ ومن ناحية أخرى، في الوقت الذي ارتفعت مساهمة القطاع الخاص خلال 2013 م في الناتج المحلي (وفقاً لوزير المالية) إلى ما يقارب 58%، لم يستطع القطاع الخاص توفير أكثر من 250 ألف فرصة عمل، أي أن هذه المساهمة العالية التي بلغت 700 مليار ريال لم يرافقها نمو منطقي في فرص التوظيف المتاحة للسعوديين. إن تخطي عدد المنضمين للتأمينات الاجتماعية من السعوديين ممن هم على رأس العمل المليون مشترك، لا يعني بالضرورة أن ما تم حتى وقتنا الراهن قدم مساهمة جذرية في القضاء على طوابير الباحثين عن عمل، الذين انضم إليهم مؤخراً أعداد جديدة من خريجي الجامعات والمعاهد السعودية، وغير السعودية؛ فالحديث عن متخرجين من جامعات أمريكية وغيرها من الجامعات الأجنبية المرموقة، يمضون فترات طويلة باحثين عن عمل يتناسب مع تخصصاتهم، لم تعد حالات فردية، بل أصبحت أكثر شيوعاً وحضوراً مما كانت عليه في الأعوام السابقة، يرافق ذلك تزايد عدد الوافدين القادمين للمملكة للعمل في وظائف يمكن لهؤلاء السعوديين القيام بها دون صعوبة. كما أن ما يسمى بالبطالة المقنعة التي كانت حكراً على الأجهزة الحكومية، أصبحنا نشاهدها في شركات أجنبية وحتى محلية. فمن أجل توفير نسبة السعودة المطلوبة يتم توظيف عدد من السعوديين بمن فيهم جامعيون، من كلا الجنسين، لا يُكلفون بمهام ذات قيمة حقيقية، ويقتصر دورهم على الحضور إلى مكاتب فارهة والجلوس ساعات طويلة دون عمل فعلي يمنحهم الخبرة والفرصة لممارسة ما تعلموه في جامعاتهم، التي لم تكن الدراسة فيها دون ثمن. كما أن سياسة التهميش التي تُمارس في بعض المنشآت الخاصة من تجاهل لقدرات ومؤهلات بعض المواطنين المتجسدة في عدم منحهم الفرصة العادلة لشغل المناصب الشاغرة في المراكز القيادية (الوسطى والعليا)؛ حيث يلحظ بشكل واضح الحضور البارز لغير السعوديين في مثل هذا المستوى من المراكز الوظيفية، وتحديداً في المنشآت التجارية والخدماتية والإعلامية؛ يسهم هو الآخر في إخفاق هذه المنشآت (التي هي مكون كبير من مكونات من القطاع الخاص) على القيام بدور تنموي فعال وملموس.هذا الدور الذي يتحدث عنه المسؤولون بكثرة، وعلى قدرته في تحقيق نمو كبير للاقتصاد الوطني يفتح أبوابه لاستقدام غير السعوديين ويقفلها في وجه السعوديين؟ فكيف إذاً يلعب دوره التنموي؟ هل التنمية هنا فقط في جني الأرباح الطائلة من المشاريع الكبيرة التي تغدقها عليه الحكومة كل عام. السؤال: لماذا يقود القطاع الخاص بكل شركاته ومنشآته وتيرة النمو الاقتصادي في البلدان الرأسمالية المتطورة ذات الاقتصاد الحر، بينما نجد مساهمة مؤسسات القطاع الخاص السعودي في تحقيق تنمية وطنية ضعيفة ومحدودة؟ كما رأينا ذلك بشكل واضح في قلة توظيفهم لمواطنيهم، الذين ببقائهم عاطلين عن العمل، يكون الحديث عن بلوغ تنمية إنسانية مستمرة حديثاً طوباوياً لا قيمة له. كما أن الاعتقاد بأن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة قادرة على إيجاد العلاج لهذا المرض المزمن، لما تمتلكه من مرونة تتيح لها إيجاد الفرص الوظيفية الجديدة، هو اعتقاد مبني على تجارب بلدان لم تشكل فيها العمالة غير المحلية أضعاف أضعاف العمالة المحلية، مثلما هو قائم حالياً في بلادنا. كما أن نمو هذه المؤسسات -وخاصة غير العاملة في المجال الاستهلاكي الفردي- مرتبط بالنمو الاقتصادي العام، وخاصة بنمو المؤسسات والشركات الكبيرة وخاصة الحكومية التي بوزنها الاقتصادي الكبير تكون لديها القدرة على أخذ زمام المبادرة والسير بعربة النمو مسافات جديدة. فحينما يزدهر الاقتصاد وتتسارع وتتعدد مساراته ومجالاته، ولا يكون مقتصراً أو مرتبطاً بقطاع ريعي واحد، ولا تابعاً قاصراً وعاجزاً لاقتصاديات الخارج دون توازن مصلحي يخدم جميع الأطراف في الحاضر والمستقبل؛ حينها يمكن الحديث عن دور تنموي نشط للمؤسسات الصغيرة التي تعتمد على مواطنيها من كلا الجنسين في إدارة وتشغيل أعمالها وليس فقط في ملكيتها التي قد تكون مجرد ملكية وهمية. كل ذلك يتحقق بإرادة سياسية اقتصادية وطنية تضع مصالح الوطن والمواطن فوق كل اعتبار من خلال إشراك المواطن في صناعة وتقرير هذه السياسة، وفي رسم حاضر ومستقبل هذا الوطن العزيز.