حُبُّ «الوطن» وحُبُّ «القبيلة» في قلبِ «إنسان هذا العصر» لا يمكن لهما أن يجتمعا، ذلك أنّ القلب السليم برهافة إحساس انتمائهِ، يأبى أن ينحشر بداخله أمران متناقضان في عصبيّتهما ولاءً وحُبّاً، إذ لكلّ منهما -الوطن/ والقبيلة- خصوصيّته في صناعة ذلك «الإنسان» الذي ينتمي إلى أحدهما بطريقةٍ أو بأخرى. ولعل «المطر/ الغيث» هو مَا يسفرُ كثيراً عن الفرق فيما بين «إنسان القبيلة» و«إنسان الوطن»؛ حيث الأول فيهما لا يعرف مطلقاً -وربما لا يعترف- بما يمكن أن يسمى اليوم في الدولة العصرية ب«الولاء للأرض» بحسبان أنّ ولاءه في أعراف القبيلة ل«السّحابة» ليس إلا، وإلى ذلك فإنّ في وسعك -دون مواربةٍ- أنْ تقول: (حيثما أنزلت المزنُ غيثها كانت الأرض التي أنبتت عشبها هي: جغرافية ولاء إنسان القبيلة)، ذلك مما أوحى به فقه دستور رعي «ابن القبيلة» للحلال وتتبعه بالتالي الغيث ومراتعه، في حين أنّ «إنسان الوطن» هو من قد أناط ولاءه ب(أرضٍ لها حدودها وتمتلك علماً خاصاً بها و..و..) حتى وإن أقفرت العام كله، وكان الجدبُ عنواناً لها. هذا.. وإن فوضويّة إعلام الفضاءِ هي ما قد أتاح لقانون «القبيلة» أن يعود ثانيةً بمسمى قنواتٍ، غاية ما أنجزته لا يعدو أن يكون توسيعاً لرقعةِ «سلومها» على نحوٍ صارخ، ذلك أنّ ما كان قبلاً يمارس بحدود ضيقة -وعلى استحياء أحياناً- ألفيناه أعوامنا التالية، وقد بات يُكرّس بأكثر من منشط إعلاميّ فضائي باذخ الصراخ وسافر الإخراج، إذ مُدّ رواق نشره بطاقةٍ استيعابيّة مدهشة، حتى إنه لم يبقَ بيت مدرٍ ولا وبر إلا وقد بلغه بثّ تلك «القنوات» التي تناسلت هي الأخرى، بطرقٍ لم تكن لتخطر على بال أحد. ولئن كانت القنوات التي يمتلكها «الوطن» قد قصرت سؤالها للمواطن ب«من أنت؟» ابتغاء تحديد معالم هويّته وطنيّاً، فإنّ القنوات المملوكة لجملة من القبائل شطحت كثيراً في سؤالها؛ بحيث راحت تصوغه على هذا النسق: «وش أنت؟».. أو بمعنىً أدق: «إلى أي قوم تنتمي؟»، فالسؤال إذن ينطرح بوصفه خياراً بيّناً لاتخاذ أحد المسارين، وهما بالضرورة لا يمكن لهما أن يندغما في بُعدٍ انتمائيٍّ واحد، ذلك أنّه سؤالٌ الإجابةُ عنه تدفع باتجاه عصبيّةٍ ليس ل«الوطن» فيها أيّ ذكر! وحينما يفنى «المواطن» ذواباً في مواجيد «القبيلة» فستبقى «هويّته» رهناً بمجتمعٍ قبليٍّ لا ينفعل -انتماءً- إلا بهاجس العِرق، الذي من شأنه أن يُنسيه اسمه الشخصي -فضلاً عن وطنه-، وإلى ذلك يُمكن حمل مقالة ابن خلدون النّاصة على: (.. إن قوة العصبية مستمدة أساساً من الالتحام الذي هو ثمرة النسب)، ومن هنا كان «ابن القبيلة» عصيّاً على الخضوع لأي سلطة مركزية، ومعتزاً بأنه ما ثمَّ من قيدٍ يُمكن أن يُكبّل له حريته في الخارج من نسقيّة «القبيلة»! تلك منتجاتٌ بدهية لعقلية نشأت على منهجية «الترحال/ والتّنقل»، ما يجعل الرهان عليها عسيراً في سبيل انصهارها ضمن إطارٍ جغرافيّ قار ومحدود، وبخاصةٍ إذا ما ظلّت -هذه العقلية- متشبثةً بما يُعرف ب«الجنيالوجيا القبيلة» ومحافظة عليها باعتبارها الرابطة الوحيدة المتبقية. والقراءة الواعية لأبعاد هذه «المقالة» تنحاز إلى تثمين «دور القبيلة» في تشكيل لُحمةِ «الوطن» وسُداه؛ ذلك أنّه «دورٌ» محفوظ لا يُمكن لأي أحدٍ إنكاره؛ غير أنّ ما تتغيّاه هذه المقالة هو إلفات النظر إلى استفحال منزعٍ قبليٍّ تُدار به كثير من هذه القنوات وَفق آلياتٍ لا تستقيم ومشغولات تكثيف «الحس الوطني» الذي يعيه كثيرون من أبناء القبيلة ممن يعرفون ل«الوطن» حقّه، وليس بخافٍ ما كان منهم مِن إسهامٍ في هذه المشغولات الوطنيّة. تساءل «أفلاطون» في بعضٍ من محاوراته قائلاً: (إلى أيّ مدى يمكننا أن نتسامح ببساطة في أن يستمع أطفالنا لقصص يحكيها كل من يحلو له ذلك.. وبهذا يتلقون في عقولهم أفكاراً غالباً ما تكون على عكس الأفكار التي نريد لهم أن يشبّوا عليها؟). أقل ما يُمكن أن يتلفّظ به من يتأمل «نصّ» أفلاطون هو: يا له من زمنٍ بعيدٍ ذلك الذي كانت ثمّة قيمٌ مرغوب في الاشتغال على تأصيلها -واستنباتها- في عقول الصغار، وبالكيفيّة التي من شأنها أن تساعدهم على أن يتصرّفوا وفقاً لمعايير مجتمعاتهم. ولئن كانت في زمن «أفلاطون» محض حكايات يُستأنس بها قبيل النوم، فإنها في زماننا هذا باتت -حكايات التنشئة- تُقدّم من خلال تقنية عاليّة، إذ يتوافر عليها الأطفالُ بطريقةٍ أخّاذة ومدهشة -لا يمكن للكبار أن يسيطروا عليها- إذ تنفذ إلى عقولهم بيسرٍ كلّ «القيم/ وتأسيسات البعد الانتمائي» وفق صورةٍ/ وصوت متلفزٍ ينشأُ عليه الطفلُ/ الفتى، إذ تتشكّل عقليته من خلال مواد «القنوات الفضائية»، ما يجعله مؤهلاً للانضمام مستقبلاً إلى مسيرةِ المجتمع الذي قد يُصنع على عين «قنوات القبيلة». ولمن شاء منكم أن يتوكّد مما أُبديته من مخاوف تُطاول «شأن تنشئة عقول الأطفال» فيمكنه أن يقارن في الحفظ -والإتقان- والانتشاء لطفلٍ يرفع صوته في الأولى ب«النشيد الوطني»، ثم يُنصت إليه ثانيةً وهو يرفع عقيرته ب«الشيلة»!! وليخبرني هل شعر بأنّ ثمة فارقاً بين الأداءَين؟ جملة ما يمكن إيجازه: نتمنى على -أهل الاختصاص- إعادة النظر في شأن تصاريح تلك القنوات -بأدائها الذي نشاهده- ذلك أنها لن تأتي بخير لهذا «الوطن» الذي جعلنا منه لنا قبيلة واحدة بها نُعرف وإليها ننتمي، (قبيلة الوطن).