حفل تكريم طلاب وطالبات مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية بالمنطقة    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    أمريكا: العودة لرفع الفائدة.. سيناريو محتمل    «الضريبة علينا» على مدى شهر كامل في جدة    رونالدو.. الهداف «التاريخي» للدوري    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    الأمن العام: لا حج بتأشيرة الزيارة    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    إعادة انتخاب المملكة لمنصب نائب رئيس مجلس محافظي مجلس البحوث العالمي    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد    تتويج الفائزين بجوائز التصوير البيئي    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    اكتمال وصول ملاكمي نزالات "5VS5" إلى الرياض    القادسية يُتوّج بدوري يلو .. ويعود لدوري روشن    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    70 مليار دولار حجم سوق مستحضرات التجميل والعناية الشخصية الحلال    سعود بن نايف: الذكاء الاصطناعي قادم ونعول على المؤسسات التعليمية مواكبة التطور    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    أمير الرياض ينوه بجهود "خيرات"    «أمانة الشرقية» تنفذ 3700 جولة رقابية على المنشآت الغذائية والتجارية    «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية»: بلوغ نسبة مبادرات رؤية 2030 المكتملة والتي تسير على المسار الصحيح 87%    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    «جائزة المدينة المنورة» تستعرض تجارب الجهات والأفراد الفائزين    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي اليوم    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    هؤلاء ممثلون حقيقيون    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    المملكة تدين مواصلة «الاحتلال» مجازر الإبادة بحق الفلسطينيين    رفح تحت القصف.. إبادة بلا هوادة    مؤتمر بروكسل وجمود الملف السوري    وزير الحرس الوطني يرأس الاجتماع الثاني لمجلس أمراء الأفواج للعام 1445ه    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    بطاقات نسك    إرتباط الفقر بمعدل الجريمة    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي.. أولمبياكوس يتسلح بعامل الأرض أمام فيورنتينا    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    القارة الأفريقية تحتفل بالذكرى ال 61 ليوم إفريقيا    ولاء وتلاحم    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    ملك ماليزيا: السعودية متميزة وفريدة في خدمة ضيوف الرحمن    إخلاص وتميز    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باضطراب التلقائية تندلق أمراضٌ نفسية
نشر في الرياض يوم 22 - 09 - 2013

إن التفكير المندفع بإلحاح واستغراق هو حالةٌ سويةٌ بل لايمكن الإبداع بدونه وكما يؤكد توم ستونير في كتابه (التاريخ الطبيعي للذكاء): (فإن معاودة التفكير في موقف معيَّن على نحو متكرر تُعَدُّ شكلاً طبيعيًّا من معالجة المعلومات بالنسبة للشبكة العصبية التي تحل أنماط التوصيلات )
كلُّ العلوم الاجتماعية تنطلق من رؤى عن الطبيعة البشرية وانتظام استجاباتها التلقائية فلولا الاطراد لما أمكن التنبؤ بأي سلوك ولا التخطيط لأي مشروع.
وتختلف المسارات وتعليل ما كان والتنبؤ بما سيكون وإدارة الحاضر والتخطيط للمستقبل بمقدار اختلاف الرؤى أما رؤيتي عن الإنسان فهو أنه كائنٌ تلقائي وأن استجاباته وفاعلياته لابد أن تكون تلقائية سواء أكانت فطرية أم مكتسبة، وأنه بمقدار إدراك هذه الطبيعة الجامعة والالتزام بما تقتضيه تتحقق فاعلية الإنسان وينتظم تفكيره ويَرْشُد سلوكه وينجو من أسباب الاضطراب أو على الأقل يكون مدركًا لهذه الأسباب ثم يساعده هذا الإدراك على التعامل مع آلياتها ببصيرة..
إن من أبرز أهداف العلم : الفهم .. والتنبؤ .. والتحكُّم .. إن العلم يستهدف تحقيق الفهم والتمكين من التنبؤ بناء على هذا الفهم وإعطاء الإنسان إمكانات التحكم فإذا نحن فهمنا ذواتنا وتعرَّفنا على الآليات التلقائية التي تتحكَّم بنشاطنا فإننا نكون بالتدريب والمران والالتزام قادرين على التحكم بهذه الآليات بدلاً من أن تتحكَّم بنا تلقائيًّا كما أننا نكون قادرين على تعبئة قابلياتنا بما نريده من معارف ومهارات وعادات ذهنية وسلوكية..
إن الإنسان محكومٌ باستجاباته التلقائية ولولا ذلك لما كان انتظام حياته ممكنًا أو لصارت حياته بالغة العُسْر والبُطْء والتعثر والكلال والعجز ولكن لايفطن الناس لهذا التحكم التلقائي ولا ليُسْر الحياة وفاعلية الإنسان الناتجة عن تعبئة القابليات ثم انسيابها تلقائيًّا إلا إذا بَهَرَهم تدفق الأداء بعد المران والتعبئة والامتلاء، أو إذا خرج الإنسان أمامهم عن هدوئه وذلك حين تجتاحه عواصف الغضب أو الخوف أو الحيرة أو الارتباك فيبقى مأخوذًا بهذه العواصف فيَظْهر عجزه عن التحكم في نفسه وكما يقول الدكتور دانييل نيتل في كتابه (الخيال القوي : الإبداع الجنون والطبيعة البشرية): (إن أنظمتي من السيروتونين والدوبامين تجعلني على ما أنا عليه.. إننا أساسًا عبارة عن مجموعة من التفاعلات الكيميائية).
إن الذين يجهلون هذه الحقيقة عن أنفسهم وعن الإنسان وطبيعته بشكل عام قد أهملوا التعرف على أهم مايجب أن يعرفوه..
لقد كَشَفَ العلمُ حقائقَ مذهلة عن أجهزة الجسم المتعددة والمتناغمة ذات الاستجابات التلقائية وعن الوظائف التلقائية الأساسية الدقيقة والمتناغمة التي تؤديها الغدد الصماء مثل : الغدة النخامية والغدة الدرقية والغدة الكظرية، إنها تتحكَّم بالأجسام والأذهان وتحدِّد الاستجابات ليس فقط في استجاباته وردود أفعاله واتجاهات سلوكه وإنما في التحكم بنمو جسمه فحين نرى عملاقًا يكاد يبلغ طوله ثلاثة أمتار وبجواره نرى قزمًا بطول نصف متر فعلينا أن ندرك بأن هذا التفاوت اللافت ناتجٌ عن اضطراب في الغدة النخامية وغزارة أو شح هرمون النمو وليست هذه الحالة سوى مثال واحد عما تفعله هذه الغدد العجيبة..
إن انتظام حياة الإنسان ونمو جسمه وإن صحته ومرضه وردود أفعاله واستجاباته واتزانه النفسي وسلامة تفكيره وانفتاح أو انغلاق قابلياته .. إن هذه كلها وغيرها مرتهنة بدقة وانتظام وكفاية الأداء التلقائي للغدد الصماء فهي تتبادل المعلومات والتأثيرات وتعمل بشكل تعاوني تلقائي مدهش ولا يتوقف هذا التناغم عند منظومة الغدد الصماء وإنما تعمل في تناغم مع كل الأجهزة الأخرى داخل الجسم الإنساني العجيب..
يوضح الفيلسوف الأمريكي الكسندر روزنبرج في كتابه (فلسفة العلم) أن العلماء يفهمون : (العقل كمنظومة فيزيقية تحاكي منظومة الحاسوب لأن البناء العصبي للمخ مماثل للحاسوب في الكثير من الجوانب المهمة فهو يعمل بالإشارات الكهربية التي تنسج شبكة معينة تحدد وضع التشغيل والتوقف )..
إننا في كل الأحوال أمام أجهزة هي ذاتية التشغيل وتلقائية الأداء وتعمل فيما بينها بتناغم وتكامل مدهش وكما يقول الدكتور سينوت دوس: (لغة الهرمون كيميائية ولغة الجهاز العصبي عصبية ويشترك الجهاز العصبي والجهاز الهرموني في كثير من عمليات الجسم فالأعصاب تتصل بالعضلات .. والهرمونات تصل إلى أدق أجزاء الخلايا).
إن كل مايعنيني من ذلك هو دلالته على أن الإنسان كائنٌ تلقائي..
يقف العالم الياباني البروفيسور كازو مورا كامي مبهوراً أمام روعة الأداء التلقائي لأجهزة جسم الإنسان العجيبة فيقول في كتابه (الحياة وشيفرتها الإلهية): ( إن آلية الحياة هي لغزٌ مذهل ) ثم يلفت النظر إلى أن هذه الآليات تعمل بدقة مذهلة دون أي تدخُّل من الإنسان: (بتنظيمها بواسطة الوظيفة المستقلة "التلقائية" للهرمونات والجهاز العصبي المستقل "التلقائي" فإن جميع وظائفنا الحيوية تعمل على مدار الساعة.. إن جيناتنا هي التي تتحكَّم بهذه الأجهزة الحيوية وهي تعمل بتناغم مثالي فعندما يبدأ أحدها بالعمل يستجيب آخر بالتوقف أو بالعمل بكدٍّ أكبر مناغمًا ومنظِّما الجهاز ككل).
إن الأجهزة الحيوية المتنوعة تُنَسِّق فيما بينها تنسيقًا تلقائيًّا يضمن الفاعلية وجوده الأداء وتحاشي التضارب قدر الإمكان لتبقى حياة الفرد سويَّةٌ وغير منزلقة نحو الإفراط، ولا متجمدة في مستوى التفريط..
إن تجهيزات جسم الإنسان هي تجهيزات مذهلة إنها مذهلة في جاهزيتها الدائمة وفي تنوع وظائفها وفي دقة أدائها وفي سرعة استجاباتها وفي التكامل العجيب فيما بينها.. إن جسم الإنسان مجهَّزٌ بأجهزة ذاتية الحركة ليستجيب تلقائيًّا لأي مؤثر فما يكاد يتعرض لأي مثير حتى تتدفق الهرمونات الحاشدة التي تفرزها الغدد الصماء لتجعله مستعدًّا للمواجهة. إنها تتدفق تلقائيًّا فلا يستطيع بإرادته أن يعيد الهدوء إلى نفسه حتى تتمكن أجهزته تلقائيًّا من مواجهة الموقف وإعادة الهدوء إلى النفس وتوفير التوازن للجسد..
لكن قد تكون حالته متأزِّمة ومستمرة التأزم فلا يعود الهدوء تلقائيًّا فقد يكون الفرد أمام مشكلة تفوق قدرات احتماله أو يواجه حالةً معقدة غير قابلة لحل سريع حاسم وتكون مصحوبة بخوف واضطراب يحول دون التروي ويربك التفكير وهو شيءٌ يحصل للناس كثيرًا فما أكثر ما يواجه الإنسان حالةً متأججة وعاصفة ومستمرة من الخوف والحيرة والارتباك والعجز عن التماسك فَتُواصل الهرمونات تدفقها وتستمر حالة الاستنفار النفسي والجسدي فلا يستطيع المرء السيطرةَ على ذاته فإذا بقي مرعوبًا فإن أجهزته تواجه الحالة باستنفار مرهق فيستمر تدفق الهرمونات الحاشدة بشكل يستنزف طاقات الأجهزة المضادة الخاصة بالتهدئة فيبقى مستثارًا رغمًا عنه وبذلك يصير كالسيارة المنطلقة بأقصى سرعة بينما كوابحها منفلتة أو غير كافية للكبح..
إن صحة الإنسان النفسية تنتظم بمقدار تَحَقُّق التوازن بين الاستجابات التلقائية للأجهزة العصبية، والتدفقات الهرمونية وكما يقول الدكتور محمد مصطفى الفولي في كتابه (السيبرنية في الإنسان والمجتمع والتكنولوجيا): (إن نظام الأعصاب في الإنسان يمكن تمثيله بشبكة خطوط التلفونات التي يُنتظَر منها في حالتها العادية عند إدارة قرص التلفون برقم معيَّن أن يرد المشترك المطلوب وكلما قلَّتْ احتمالات الدقة في النظام أدى ذلك إلى أخطاء في الاستجابة للرقم المطلوب ومن المعروف أنه كلما زادت شبكة التلفونات كانت أخطاؤها أكثر..
والجهاز العصبي للإنسان معقَّد جدا والفاصل ضعيفٌ بين الأداء السليم والوصول به إلى درجة الإرهاق التي تؤدي إلى حدوث خلل في استقبال الإشارات وإرسال ردود الأفعال .. والحالات المرَضيَّة في الجهاز العصبي يمكن أن تحدث عندما يكون حجم الإشارات المستقبَلة كبيرًا جدا نتيجة تعطيل في وسائل الاستقبال أو نتيجة شغل هذه الوسائل بإشارات غير مرغوبة مثل التفكير المستمر المتزايد في أشياء معيَّنة بالذات وفي جميع هذه الحالات يصل الإنسان إلى المرحلة التي تكون فيها أجهزة استقباله مشغولة لدرجة أنها تصبح غير قادرة على استقبال الإشارات اليومية العادية وفي هذه الحالة يصاب الشخص بحالات الانهيار العصبي التي قد تصل به إلى الجنون أحياناً).
وينبه عالم النفس الفرنسي بيير داكو في كتابه (الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث) إلى أن الإنسان محكومٌ : (بآلية جسمية بصورة صرفة) ويؤكد أن الناس: (يعتقدون بأن الموجود الإنساني سيد طاقته وأنه يستطيع أن يصنعها حينما يشاء وهذا خطأ على وجه الإطلاق) ويؤكد بأنه لابد: (أن يكون مفهومًا أن الإرادة السوية هي مسألة صحة وتوازن) ثم يؤكد بأن : (الصحة الجسمية والعصبية تُنشئ الإرادة آليًّاً)..
هكذا تبقى صحة الإنسان مرتهنة بانتظام تلقائيته فإذا اختلَّت هذه التلقائية اختلالاً يصل إلى درجة الاضطراب والعجز عن التماسك فإنه ينزلق إلى حالة من حالات المرض النفسي هكذا تفعل الهرمونات فهي تتدفق تلقائيًّا استجابةً لأي طارئ مثير ثم تجوب الجسم عَبْر الدم لتفعل الأفاعيل وكما يقول توم ستونير في كتابه (التاريخ الطبيعي للذكاء): (الهرمونات تعمل كرسل كيميائية بين الخلايا والأنسجة والأعضاء والأجهزة التي تؤلف البيئة الداخلية للكائن الحي الفرد) وعلى سبيل المثال فإن هرمون الأدرينالين يتدفق في دم الفرد في أوقات الشِّدة والانفعال فيصير الإنسان في حالة تسارع لايستطيع كبحه على النحو الذي يصفه توم ستونير حيث تسيطر على الفرد فكرةٌ محدَّدة ويظل مأخوذًا : (بمعاودة التفكير في دوائر المرة بعد الأخرى .. على أن عملية كهذه قد تؤدي إلى حالة مَرَضيَّة بأن توضع الشبكات العصبية في رنينية ذات استثارة ذاتية بمعنى أن التفكير يدور في حلقة مفرغة .. وإذا أصبحت العملية على درجة من الشدة الكافية لتكوين حالة نفسية مَرَضيَّة فإن كسر هذه الحلقة قد يتطلب إجراءات أكثر شدة مثل العلاج).
إن العلاج الذي يتناوله المكتئب يُشْبه العلاج بالانسولين تعويضًا عن ضعف أو عجز البنكرياس عن إنتاج الكمية الكافية من هرمون الأنسولين الطبيعي..
إن الإنسان بطبيعته السَّويَّة أيضا مهيأ للانخراط في حالة اندفاع تلقائي مستغرق مؤقت فالتفكير الاندفاعي في حالته السَّويَّة المؤقتة هو مصدر الاختراق والإنجاز والاكتشاف والإبداع فالعالم أو الشاعر أو الفنان أو الروائي لن يتحقق له التجلِّي الخارق إلا إذا هو صار مأخوذًا بفكرة ملحَّة مستغرقة..
إن التفكير المندفع بإلحاح واستغراق هو حالةٌ سويةٌ بل لايمكن الإبداع بدونه وكما يؤكد توم ستونير في كتابه (التاريخ الطبيعي للذكاء): (فإن معاودة التفكير في موقف معيَّن على نحو متكرر تُعَدُّ شكلاً طبيعيًّا من معالجة المعلومات بالنسبة للشبكة العصبية التي تحل أنماط التوصيلات ) فما أكثر المبدعين الذين يستغرقهم الاندماج الكلي في الموضوعات التي تستحوذ على اهتمامهم بشكل يُنهك قواهم ويضر بصحتهم لكنهم يبقون يواصلون العمل مهما بلغ بهم الإجهاد وقد ينهض المبدع من سرير نومه لتدوين فكرة أو كتابة تعبير مبتكَر. إنهم يعيشون موضوعاتهم بكل كياناتهم وجوارحهم، إنهم في حالات التجلِّي يكونون فوق ذواتهم.. إنها تجليات استثنائية فالمبدع أثناء الولادة الإبداعية هو إنسانٌ يختلف عن الشخص نفسه خارج لحظات الإبداع المضيئة..
إن الاستغراق حالة ملازمة للمبدعين في كل المجالات إنها حالة يعرفها علماء النفس ويتناولونها كثيراً وعلى سبيل المثال فإن عالم النفس الفرنسي بيير داكو في كتابه (الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث ) يقول : (يمشي أحد العلماء فتتسلَّط على ذهنه مسألةٌ من المسائل لقد سيطرت عليه هذه المسألة سيطرةً تامة فمن يندهش لرؤية هذا العالم وهو يتناول قطعة من كرتون يكتب بها على سيارة في حالة توقف ؟ من سيندهش من شروده الكلي ؟
إن العالم في هذه اللحظة فريسةَ فكرة ثابتة : مسألته .. غير أن هذه الفكرة مؤقتة تدوم إلى أن تُحَل الصعوبة )
فالاستغراق المبرَّر حالةٌ سوية ومطلوبة بل ضرورية للفهم والإنجاز والإبداع إنه احتشادٌ وتناغم تلقائي لطاقات العقل والوجدان حيث يندفع المبدع بكل كيانه رغمًا عنه فهو يشبه التفكير القهري إلا أنه استغراقٌ مؤقت وغير مصحوب بخوف ولا ارتباك بل هو تفكير عقلانيٌّ ممتع ومنتج غير أنه مع ذلك اندفاعٌ تلقائي يصعب على الإنسان صدُّه أو وقفه وكما يقول عالم النفس بيير داكو : (الفنان يستحوذ عليه عمله الفني في حالة المخاض فلا يعرف غيره ولا يرى غيره .. تلك فكرة ثابتة ) ثم يؤكد : (إن الفكرة الثابتة هي دائمًا نتاج آلية لا شعورية فإذا كان العالم لايلاحظ شيئًا فذلك بسبب كونه عاجزًا من الناحية العصبية عن رؤية أي شيء غير ما يهمه أو عن سماعه، وعلَّةُ ذلك أن سائر المراكز العصبية الدماغية التي لاتعمل في سبيل المسألة الراهنة مجمَّدة .. الفكرة الثابتة جمَّدت الخلايا العصبية الأخرى) لكنه تجميدٌ إيجابي مؤقت بخلاف التفكير القهري المرَضي فهو غير مبرَّر وغير عقلاني ومستمر ومشحونٌ بالألم والاضطراب إنه استغراق وإلحاحٌ غير منطقي ويدرك الشخص نفسُه تعارضه مع المنطق السليم لكنه لايستطيع إيقافه إنه دورانٌ في حلقه مفرغة سببه اضطراب التلقائية السوية وعجز الإنسان عن كبح اندفاعه التلقائي..
إن منظومة من العلوم الحديثة تتضافر لتقدم دعمًا لنظرية تلقائية الإنسان يأتي في مقدمتها علم الأعصاب والبحوث الدقيقة التي أُجريتْ على الدماغ والجهاز العصبي وعلم السيبرنيتية أو التحكم التلقائي في الكائنات الحية وكذلك علم المعلومات والطاقة الحيوية حيث يقول جوردون سكارت : (النظام المنتظم هو تجميعٌ من علاقات اعتماد متبادَل لعناصر أو لأنظمة منتظمة والمعلومات هي ما يتم تبادله بين مكوِّنات النظام المنتظم لإحداث هذا الاعتماد المتبادل فيما بينها).
إن جسم الإنسان ينطوي على أنظمة عديدة مذهلة وأجهزة كثيرة معقدة وكل جهاز يتكوَّن من عناصر متنوعة وهي تعمل بتناغم تلقائي مدهش لكن لشدة تعقيدها وتنوع وظائفها واعتماد بعضها على بعض وتلقائية نشاطها فإنها معرضة دومًا للتداخل والاستنزاف والاضطراب وكما يقول توم ستونير في كتابه (التاريخ الطبيعي للذكاء) فإن : (احتمالات الخلل الوظيفي تتزايد بمتوالية هندسية مع زيادة تركيب النُّظُم)، ويقول : (من المهم أن لانخلط بين معالجة المعلومات والمعلومات نفسها .. إن المعلومات هي مفهومٌ مجردٌ مثل الطاقة يُظهر نفسه بواسطة تنظيم النظُّم) وعلى سبيل المثال فإنه حين يجري جَرْحُ جسد الإنسان فإن الخلايا مبرمَجة لتبادر تلقائيا للتكاثر إلى أن تُكمل ترميم الجرح.. إنها تحمل في ذاتها معلومات عما يجب عليها عمله ومبرمجة بأن تستجيب تلقائيًّا لأداء ما تستوجبه الحالة فما أن تنتهي مهمة الترميم حتى تتوقف عن التكاثر وتبقى متأهبة لأي طارئ ومثل ذلك يقال حين يتعرَّض الإنسان لأي تهديد أو خطر فإن غدده الصماء تبادر تلقائيًّا باستنفار طاقته وحشد دفاعاته واستكمال إجراءات متنوعة تستهدف دفع الضرر عنه والمحافظة عليه وكذلك جهاز المناعة يعمل تلقائيًّا إنه مبرمَج بأن يتعرف بسرعة على أي طارئ فيقاومه إن كان غريبًا أو يتركه يؤدي دوره إن كان مألوفًا..
إن التفكير القهري والحصر النفسي والاكتئاب والكثير من الاضطرابات النفسية تندلق حين تضطرب تلقائية الفرد فيبقى متأزمًا ومستثارًا أكثر مما تتحمله أجهزة الكبح لديه..
إن مئات الملايين من الناس في العالم مأسورون بعواصف الخوف والتوتر والقلق والاكتئاب فصحة الإنسان النفسية قائمة على التكامل والتناغم بين أجهزته ذات التشغيل الذاتي التلقائي لذلك فإن العالم الفيلسوف الشهير اريك فروم الذي هو أيضا أحد علماء النفس البارزين ومن أشهر المهتمين بالتحليل النفسي والمتعمقين في دراسة الطبيعة البشرية يؤكد أن التلقائية تُجَنِّب الإنسان الاغتراب والاكتئاب كما أن استعادة التلقائية تؤدي إلى الشفاء من الحصر النفسي ومن الاغتراب والكآبة ويرى أن : (الشخصية الإيجابية هي القادرة على الارتباط التلقائي ). وقد تناول ذلك في عدد من كتبه مثل كتابه (الخوف من الحرية) و(الإنسان بين الجوهر والمظهر) و( الإنسان لنفسه) وغيرها، ويقول في كتابه (الخوف من الحرية) : (إن الحرية الإيجابية تقوم على النشاط التلقائي للشخصية المتكاملة)، ويقول في نفس الكتاب : (إن النشاط التلقائي هو نشاطٌ حرٌّ للنفس) وهو يَعتبر أن النشاط التلقائي هو النشاط المنتج..
إن الإنسان كائنٌ تلقائي حتى في ما هو إرادي فمهمة الإرادة والوعي هي تعبئة القابليات حتى تكتنز فإذا تحقق الاكتناز فاض منها الأداء تلقائيا سواء في مجال العلم أو العمل فليست المهارات الفائقة سوى نتاج هذه التعبئة الموصولة الواعية المتكررة التي تؤدي إلى الرسوخ فهذا الماهر الذي يطبع بسرعة فائقة ودقة مدهشة لم تولد معه هذه المهارة وإنما هو قام بتعبئة قابلياته بالمران وتكرار الممارسة حتى اكتظت ذاته فصارت تتدفق فيضًا تلقائيا بالمهارة ومثل ذلك يقال عن كل مهارات التعلُّم والعادات والسلوك والأداء فإذا أربك الفرد تلقائيته فإنه يفقد بذلك فاعليته كما يفقد جَودة أدائه فلولا بناء التلقائية لما تمتَّع لاعبو السرك بهذه المهارات المذهلة ولكنها قابلية التعبئة تُمدُّك بإمكانات هائلة لتملأ ذاتك بمهارات مدهشة ومعارف عظيمة وعادات راسخة فتكون هذه المهارات وهذه المعارف وهذه العادات جاهزة للأداء التلقائي الدقيق والعجيب..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.