وفاة الأمير منصور بن بدر    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    الإعلان عن تفعيل الاستثمارات المباشرة وانطلاق العمل الفعلي في صندوق "جَسور" الاستثماري    شركة TCL توحّد على نحو استباقي شركائها العالميين من أجل تحقيق العظمة في مؤتمر الشركاء العالميين لعام 2024    انخفاض معدلات البطالة لمستويات تاريخية    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 686 مليون ريال    اختتام المرحلة الأولى من دورة المدربين النخبة الشباب    اخجلوا إن بقي خجل!    رؤية الأجيال    وزيرة الدفاع الإسبانية: إسبانيا ستزود أوكرانيا بصواريخ باتريوت    «الدفاع الروسية» تعلن القضاء على ألف وخمسة جنود أوكرانيين في يوم واحد    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    "الشؤون الإسلامية" ترصد عددًا من الاختلاسات لكهرباء ومياه بعض المساجد في جدة    منتخب اليد يتوشح ذهب الألعاب الخليجية    الأهلي المصري يضرب موعدًا مع الترجي التونسي في نهائي دوري أبطال إفريقيا    ريال مدريد يهزم سوسيداد ويقترب من التتويج بالدوري الإسباني    ميشيل: سعيد بمباراتي ال100 مع الهلال    جيسوس يفسر اشارته وسبب رفض استبدال بونو    الاتحاد يخسر بثلاثية أمام الشباب    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    "السينما الصناعة" والفرص الضائعة    المخرج العراقي خيون: المملكة تعيش زمناً ثقافياً ناهضاً    د. عبدالله العمري يستنطق «ذاكرة النص» وفضاءات نقد النقد    وزير الثقافة يرفع التهنئة للقيادة بتحقيق رؤية السعودية 2030 عدة مستهدفات قبل أوانها    محمد بن عبدالرحمن: طموحات وعزيمة صادقة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور قيادة القوة البحرية بجازان    توافق مصري - إسرائيلي على هدنة لمدة عام بقطاع غزة    إغلاق جميع فروع منشأة تجارية بالرياض بعد رصد عدة حالات تسمم    "الأرصاد": لا صحة لتعرض المملكة لأمطار غير مسبوقة    نائب وزير الداخلية يرأس وفد المملكة المشارك في المؤتمر الأول لمكافحة الاتجار بالمخدرات    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    النفط يرتفع.. والذهب يتجه لأول خسارة أسبوعية    «مكافحة المخدرات» تقبض على شخصين بالقصيم لترويجهما مادة الإمفيتامين المخدر    نائب أمير منطقة تبوك يرفع التهنئة للقيادة الرشيدة بمناسبة إنجازات مستهدفات رؤية المملكة ٢٠٣٠    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    «الحج والعمرة»: احذروا شركات الحج الوهمية.. لا أداء للفريضة إلا بتأشيرة حج    الأرصاد: لا صحة عن تأثر السعودية بكميات أمطار مشابهة لما تعرضت له بعض الدول المجاورة    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    الشاب عبدالله بن يحيى يعقوب يعقد قرآنه وسط محبيه    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    أعمال نظافة وتجفيف صحن المطاف حفاظًا على سلامة ضيوف الرحمن    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    "المُحليات" تدمِّر "الأمعاء"    مقامة مؤجلة    هوس «الترند واللايك» !    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    افتتاح المعرض التشكيلي "الرحلة 2" في تناغم الفن بجدة    الصحة: رصد 15 حالة تسمم غذائي في الرياض    تفكيك السياسة الغربية    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    مقال «مقري عليه» !    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كل إثارة تتقلص بالتكرار حتى تتوقف بالتعوّد
نشر في الرياض يوم 14 - 08 - 2011

إن الوضع التلقائي لأي إنسان هو التكيف والانتظام الرتيب ضمن الوضع السائد فلا يُخرجه من تلقائية انتظامه سوى مثير طارئ. إن فاعلية الفرد في أي مجال هي نتاج الإثارة فطاقته تبقى كامنة حتى تستثار فهي لا تنبعث تلقائياً وإنما تستجيب لمثير جديد، وتكون قوة الفاعلية بمقدار قوة الإثارة.
إن فاعلية الإنسان لا تنشط إلا بمواجهة مثير باعث أو دافع أو حافز، أما القانون النفسي المرتبط بالمثير فهو أن أية إثارة تتقلص بالتكرار وبالتكيف حتى تنطفئ فتندرج مع المألوف فالتكرار يؤدي إلى التعود أما التكيف والتعود فهما الانتظام التلقائي في وضع معيَّن من غير إثارة ففاعلية الإثارة من أي شيء مثير تتقلص بمقدار التعايش معه، والتكيف به إلى أن تتوقف بالتعود عليه والتآلف معه وهذا أحد مظاهر الطبيعة التلقائية للإنسان فهو لا يتحرك إلا بمثير يحركه سواء أكان المثير مبهجاً ولذيذاً وجاذباً ومدهشاً أم كان مثيراً مؤلماً ومُراً ومنفراً فالإنسان في حالة ديالكتيك بين الإثارة وانطفائها، فالانتظام هو الأصل الذي يستغرق أكثر عمر الفرد أما الإثارة فهي دائماً طارئة وقصيرة المدى وسريعة الانطفاء ليحتاج الفرد إلى إثارة جديدة لينشط ويهب ويتحرك ويجدد ذاته ويملأ قابلياته ويطور قدراته ويوسع اهتماماته وينوع معارفه ويرتقي بمهاراته..
إن تقلُّص الإحساس بالمثير بالتكرار والتكيف وفقدان الإثارة بالتعايش معه ثم الاستقرار على حالة الانتظام بعد التعود عليه والتكيف معه هي ظاهرة بشرية عامة فإذا كثر المساس قل الإحساس. وعلى سبيل المثال فإن الإنسان إذا غطس في ماء فاتر فإنه يحس بالحرارة اللاسعة في اللحظات الأولى، ثم يفقد هذا الإحساس فلو أضيفت كميات متتالية من الماء الأشد حرارة لربما تضرر من غير أن يحس لأن مهمة الألم هي التنبيه للخطر وهذه المهمة تتحقق في اللحظات الأولى ثم يتكيَّف الجسم مع الوسط الذي يحيط به. إنه تكوين إعجازي باهر فسبحان الخالق العظيم. وفي كتاب (العيش على حافة الخطر) وتحت عنوان (النزول في الماء الحار) تؤكد أستاذة الفيزيولوجيا في جامعة أكسفورد فرانسيس آشكروفت بأنها خاضت تجربة السباحة في بركة تقترب درجة حرارتها لنصف درجة الغليان وهي بركة مياه معدنية في اليابان بجوار بركان تفور نيرانه بانتظام، وقد وجدت الفتيات اليابانيات الرقيقات الناعمات غاطسات في هذه البركة الحارة لأنهن معتادات على الغطس في الماء الحار فتشجعت وخاضت معهن التجربة وغطست ومن البداهة أن إحساسها بالحرارة في البداية كان حاداً وكاوياً.
إن تجربة هذه العالمة لم تكن مع حرارة متدرجة وإنما هي حرارة ثابتة مرتفعة أما زيادة حرارة الماء بالتدريج فهي الأخطر حيث يتكيف الجسم معها فينشوي من غير أن يحس، ولذلك تنهي العالمة الفصل بأن الإنسان قد يموت وهو لا يدري حيث يعتاد الجسم على الحرارة فيكفَّ عن التألم..
إن استجابات الإنسان الجسدية والنفسية كالرضا والغضب والانجذاب والنفور والحب والكُره والسعادة والشقاء، والجوع والشبع والمعرفة والجهل، والمهارة والكلال وما لا حصر له من الاستجابات كلها محكومة بالتلقائية
إن استجابات الإنسان الجسدية والنفسية كالرضا والغضب والانجذاب والنفور والحب والكُره، والسعادة والشقاء والجوع والشبع والمعرفة والجهل، والمهارة والكلال وما لا حصر له من الاستجابات كلها محكومة بالتلقائية فآلام الجوع تعضُّ الجائع وتنبهه إلى أنه محتاج إلى الغذاء لتجديد الطاقة لكن إذا لم يتوفر له الغذاء فإن الجسد يكف عن الصراخ.
وقد فطن لذلك واحد من أشهر صعاليك العرب أعني (الشنفرى) ففي واحدة من أجمل وأشهر قصائده يقول:
أديم مطال الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل
لقد لاحظ هذا الصعلوك المتشرد الذي عايش الجوع طوال عمره أن آلام الجوع تنطفئ تلقائياً إذا لم يجد الجائع ما يطفئها به. إنها تجربة فردية قسرية مريرة لكنها ذات دلالة إنسانية عامة كاشفة وعميقة فهو لا يماطل الجوع اختياراً ولكن تجربته القسرية الطويلة مع التشرد والجوع قد كشفت له عن أن الإحساس الشديد بالجوع يتوقف إلحاحه وينطفئ ألمه، ويسكت صوته إذا لم تتحقق الاستجابة له فالجسد بجهازه العصبي مصمم ليوقظ تلقائياً وينبه لكن هذا التنبيه لا يستمر بل إذا أدى المهمة توقف عن الرنين حتى لا تجتمع على الجائع حاجة الجسد للطاقة، وآلام التنبيه لهذه الحاجة لأنها تضاعف الألم وهي نتيجة معاكسة للوظيفة..!!!
ولكن مطالبة الجسد والنفس بتجدد المثيرات أو مضاعفتها إذا لم تتجه لوظيفتها الحيوية فإنها تتحول إلى وبال فيجب أن ندرك المغزى العظيم لهذه الآلية العجيبة في التعاقب بين الإثارة، والاستجابة وبين الانتظام والاقتحام، وبين التقليد والتجديد أما إذا بقينا نجهل هذا المغزى العظيم فإن هذه الآلية المدهشة تنقلب إلى آلية ضارة أو مدمرة وعلى سبيل المثال فإن الإنسان يحب اللذيذ ولكن بحصوله عليه يفقد الكثير من لذته لأنه يتكيف معه ويعتاده ويتآلف معه فلا يثيره بعد الاعتياد عليه والتآلف معه لأن الدماغ الإنساني وجهازه العصبي مصمم ليتعرف على كل شيء يعرض له فيستجيب تلقائياً للذة ويهرب من الألم ولكنه يجد أن كل لذيذ يفقد كل أو بعض ما كان يجده فيه من لذة بعد أن يعتاد عليه فينغمس فيه بحثاً عن نفس المستوى من الإثارة والمتعة فلا يتوقف عن طلب المزيد...
وقد تناول هذه الظاهرة الإنسانية المهمة بمغزاها العميق وتأثيرها الواسع عالم النفس الأمريكي الدكتور مارتن سليجمان في كتابه عن (السعادة) وبيَّن كيف أن الطعوم والمذاقات وكل الأشياء الممتعة واللذيذة تفقد تأثيرها بسرعة، ويكون الفقد بمقدار التكرار إنه يؤكد أن الشعور باللذة والمتعة يكون سريع الزوال، وأنه في العادة يكون مفاجئاً للناس لكنهم لا يعرفون سببه ولا يحاولون في الغالب أن يعرفوا السبب فبمجرد زوال المؤثر الخارجي فإن الشعور الايجابي يغرق خلف أمواج الخبرات الجارية فيقول: «إن متعة التذوق الثاني للآيس كريم هي أقل من نصف المرة الأولى، وبعد المرة الرابعة تكون مجرد سعرات حرارية» فهي بالتكرار والتكيف مع طعمها تفقد مذاقها اللذيذ لأنها لم تعد جديدة على الدماغ والجهاز العصبي فهو يتكيف بسرعة لأن مهمته الأساسية هي أن يعرف فما أن تتحقق هذه المعرفة أو يتوهم الشخص أنها قد تحققت حتى تتوقف الإثارة بما فيها من حلاوة أو مرارة...
وهكذا نرى أن ظاهرة التكيف السريع وتقلّص الإثارة والتعود في النهاية مع المثير مهما بلغت روعته كانت محل اهتمام الباحثين والعلماء ومنهم الدكتور سليجمان الذي يقول: «إذا كنت تحب موسيقى (بروس سبرنجتين) فجرب أن تستمع لعدة مرات أكثر وكذلك لعدد مرات أقل وسوف تكتشف المدة الزمنية التي تحتفظ موسيقاه بحلاوتها» ويقول: «إن الخلايا العصبية مبرمجة بحيث تستجيب للأحداث الجديدة، ولا تنفعل إذا كانت الأحداث لا تقدم معلومات جديدة»
إن هذا العالم يؤكد بأن الإحساس بالمتعة بعد التكرار قد ينخفض إلى الصفر وبسبب ذلك يحصل الإدمان على المخدرات...
إن كل شيء لذيذ تتلاشى لذته بالتآلف معه ولكن أسوأ أضرار هذه الطبيعة البشرية التي تتلهف دوماً للمزيد من عوامل الإثارة هي الإدمان فنشوة المخدرات توقع بعض الناس في ورطة الإدمان المدمرة فمثلما أن الجسد يتكيف مع حرارة الماء الدافئ فيفقد الإحساس بالحرارة فكذلك يحصل هذا التناقص والتلاشي للأثر في تعاطي المخدرات فجرعة المخدر التي كانت تبعث الإحساس بالنشوة تصبح غير كافية لبعث هذا الاحساس ما يدفع المتعاطي إلى مضاعفة الجرعة ويستمر يزيد الجرعة ويستمر الجهاز العصبي يطلب المزيد لأنه يتكيف مع كل جرعة اضافية فلا يستثار حتى يتلقى جرعة أكبر وهنا تحل الكارثة فيقع الإنسان في هاوية الإدمان...
وقد أكد الطبيب الأمريكي من أصل ياباني هيرومي شينيا في كتابه (العامل الإنزيمي) بأن الإفراط في تناول المنبهات أيضاً كالقهوة يؤدي إلى نتائج عكسية فإذا اعتاد الجسم على هذا الإفراط فإنه يتآلف معه فيفقد فاعليته في التنبيه فالجسم يتآلف مع أي طارئ فتتقلص آثاره بالتدريج إلى أن يصبح شيئاً معتاداً وغير مثير وقد أكدت أيضاً هذه الظاهرة الدكتورة سوزيت إيفانز عضو هيئة التدريس في جامعة كولومبيا للأطباء والجراحين والأستاذة في معهد الطب النفسي بولاية نيويورك فقد أكدت بأن مواصلة تناول القهوة يؤدي إلى اعتياد الجسم عليها فيضعف تأثيرها...؟!
إن كيان الإنسان: جسداً وعقلاً ووجداناً يتبرمج بما يكرر فعله لذلك لاأستبعد أن تكون بعض الأمراض الطارئة غير المعروفة من قبل مثل الإيدز قد نتجت عن كثرة المتغيرات التي جابهت الأجسام وهي غير مستعدة للتفاعل معها لأن الجينات المتوارثة خلال الأجيال الماضية قد تبرمجت على أنواع محدودة من الأطعمة، وعلى بيئات نظيفة غير ملوثة وكذلك ظاهرة تفاقم مرض السكر خصوصاً في المناطق الصحراوية كالمملكة العربية السعودية فالرخاء السابغ طارئ على هذه البيئة القاحلة، وجينات الناس في هذه الصحراء الجدباء عبر أجيال متتالية لم تتعود على تنوع الأغذية ولا على وفرتها لذلك فإن هذا المرض قد تفاقم إلى درجة وبائية..
وأعتقد أن أحد الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة هو أن جينات سكان هذه البيئة المجدبة قد فوجئت بأغذية لم تكن متهيأة للتعامل التلقائي معها فالجينات إذا تبرمجت سنوات طويلة وخلال أجيال ممتدة على نوع من الغذاء فإنها قد لا تستطيع التعرف على أنواع جديدة مغايرة خصوصاً إذا كان التغير كثيفاً ونوعياً...
لكن للتبرمج فائدة عظيمة فالصورة المغايرة النافعة هي قابلية الجسم للتطعيم ضد الأمراض فالتحرش به وإثارته واستنهاض دفاعاته المناعية التلقائية تكسبه مناعة ضد بعض الأمراض المعدية فيصبح جسده مقاوماً للمرض وغير قابل للعدوى وهذا نوع من البرمجة لإكساب الجسد مناعة دائمة تلقائية الفاعلية.
إن الأطفال تتعزز مناعتهم باستمرار بما يكتسبونه من مجابهة البيئة فالمناعة التي تتأسس أثناء الحمل تحتاج بعد الولادة إلى مواصلة التعزيز والبناء فلابد أن يتحقق ذلك اكتساباً من التعايش مع مكونات البيئة، ومواجهة معوقاتها وهذا شاهد آخر على أن الإنسان كائن تلقائي في قابلياته الجسدية والذهنية والنفسية...
إن هذه الظاهرة تدل أيضاً وهذا هو المهم على قابلية الإنسان للتعبئة بالمهارات والبرمجة بالمعارف إلى مالا نهاية فالقابليات مرنة تستوعب أية تعبئة، وهذه ثروة إنسانية هائلة معطَّلة فالمهم أن تنفتح القابليات من الداخل، وأن تكون عن رغبة ذاتية تلقائية.
إن هذه القابلية المفتوحة للبرمجة الجسدية والذهنية والنفسية والأخلاقية دون حدود تفتح للإنسان آفاقاً واسعة سواء للمناعة الجسمية أو المرونة في العضلات والجسد كما في الأداء الرياضي العجيب والألعاب الفائقة المدهشة أو في تعبئة القابليات بالمعارف والمهارات والتهذيب الذوقي والأخلاقي ففي الهند القديمة كانوا يعطون الرضيع مقداراً ضئيلاً من السم ثم يزيدون الجرعة بالتدريج حتى يعتاد الجسم على المادة السامة من غير أن تصيبه بضرر وهذا أحد الأدلة الكثيرة التي تؤكد قابلية الإنسان للبرمجة: جسداً وعقلاً وعواطف وأخلاقاً وسلوكاً..
إن قابلية الإنسان للتبرمج جسداً وعقلاً وعواطف وأخلاقاً هي قابلية مذهلة ففي العراق كان الطفل (ياسر) متخلفاً عقلياً وكان أبوه يربطه في (برميل) غاز الطبخ، وكان الطفل إذا جاع فتح الغاز وصار يستنشقه عوضاً عن الطعام فأدمن ذلك فأصبح يستهلك كل يوم أربعة (براميل) من الغاز السام!!! ولكن من دون أن يتسمم دمه أو جسمه فلقد فحص الأطباء دمه فوجدوه سليماً، ولأنه متخلف عقلياً فإنه يصير صاخباً إذا لم يوفروا له الغاز ولأن أسرته فقيرة فإن أهل الحي صاروا يسهمون في توفير الكميات الكافية له من الغاز ليتجنبوا ضجيجه وصخبه وعويله.
لقد تبرمج منذ طفولته على هذه المادة السامة فلم يعد الغاز ساماً بالنسبة له فقد ظل يستنشقه أكثر من ربع قرن فتكيف الجسم مع السم فبات الإشكال هو توفير هذه الكمية الكبيرة من الغاز كل يوم ثم إن غيره من الذين لم تتكيف أجسامهم يتعرضون للأذى والتسمم إذا امتدت إليهم رائحة الغاز.
إن هذه الحالة مع ما لا يحصى من مظاهر التبرمج تعطينا برهاناً كافياً على أن الإنسان في طفولته يتبرمج ويتكيف جسده وعقله وعواطفه بأي شيء يتكرر معه تكراراً يكفي للتبرمج به..!!!
وإذا كان جسد الإنسان يتبرمج بمادة سامة فتصبح غير سامة بالنسبة له ما دام أنه قد تلقاها في فترة الطفولة فإن هذا الجسم أيضاً بالمقابل قد يتحسس من مادة مغذية ولذيذة مثل تحسس بعض الأشخاص من أكل البيض أو الموز أو غيرهما من الأغذية فالحساسية هي رد فعل غير طبيعي لمؤثر طبيعي وأعتقد أنه يجب معرفة تاريخ الشخص المصاب بالحساسية لأن جهازه المناعي يستجيب استجابة غير ملائمة إذا لم يتعرف على المادة الطارئة حتى لو كانت مادة مغذية فالإنسان كائن تلقائي يتبرمج عقله وجسده ووجدانه بما تآلف معه واعتاد عليه...
في الأعمال الإبداعية يحدث أن يعبّر المبدع في عبارة مقتضبة قد تبدو عابرة عن فكرة فلسفية بالغة العمق على لسان إحدى الشخصيات الروائية أو المسرحية وقد تمر الفكرة الخارقة وكأنها حدث عابر لايحمل مضموناً حاداً ينفذ إلى الأعماق ففي مسرحية (في انتظار جودو) للمبدع الشهير صامويل بيكيت تكشف احدى الشخصيات عن أن مذاقاتنا وخياراتنا وآراءنا هي نتاج التعود أي أننا بالتكرار نتبرمج بها فصديق الشخصية أبدى استغرابه ونفوره وتقززه وهو يراه يأكل اللفت المرّ فجاءت الاجابة حاسمة تكشف عن أن الإنسان يتبرمج: جسداً وذوقاً وعقلاً وعواطف فيقول: «كلما أكلت منه بكثرة تعودت عليه ثم أحببته»!! فالتعود يقلب المرارة إلى مذاق لذيذ إنه لا يصير مذاقاً مستساغاً ومحتملاً فقط وإنما يصبح بالتبرمج به مذاقاً مطلوباً ومحبوباً..
إن قابلية الإنسان للتبرمج بقدر ما فيها من ضرر شديد في غالب الأحيان بسبب أولوية الجهل وتلقائية التشبع به وندرة التحقق، وأسبقية النقائص البشرية وتلقائية التمحور حول الذات فإن لها أيضاً مزايا كبيرة وكثيرة على الفرد والمجتمع والإنسانية أجمع إذا تحقق استثمارها بمنهجية عالية الهدف ودقيقة التنظيم وموصولة المثابرة، وكثيفة المحتوى فالفقدان المتكرر للإثارة، وجاهزية مصيدة الملل وحاجة الإنسان الدائمة إليها والنفور التلقائي من الملل الذي لا فكاك منه إلا بإثارات متجددة إن هذه كلها تدفعه إلى السعي نحو التغيير والتجديد بحثاً عن المثير، وخروجاً من ملل الرتابة وبذلك تتنوع خبراته وتتسع معارفه وتنمو قدراته ومن المجموع الهائل للاضافات الفردية تزدهر الحضارة الإنسانية..
ولكن ليس كل الأمم تستفيد من هذه الطبيعة البشرية بل إن هذه التلقائية تكون ذات ضرر بالغ في الثقافات المغلقة لأن هذه البيئات تحارب التغيير وتقاوم المثيرات الايجابية فيتعايش الأفراد في كل الأجيال مع أسوأ الأوضاع من غير إحساس بهذا السوء بسبب القابلية التلقائية للتكيف، والانتظام في أي وضع سائد فبسبب غياب الإثارات المتجددة الموقظة تبقى الأمة تكرر ذاتها وتفاخر بماضيها وتجتر ما تشبعت به من تاريخها وما تتوارثه أجيالها من قيم وعادات وتصورات وطريقة تفكير، ولا تتغير مهما طالت القرون إلا نحو المزيد من الانغلاق والجمود فتتراكم المعوقات وتتعمق عوامل التخلف فلا تكتسب مع مرور الأزمان سوى المزيد من القيود والرتاببة والتكرار والاجترار فالقابليات التلقائية للأفراد تتشكل وتمتلئ تلقائياً في الطفولة فتتجمد فيكون الأفراد نسخاً مكررة مبرمجة، وتستمر الأذهان منغلقة ومتجمدة لغياب الإثارات التي لا تنتج إلا عن كثافة المثيرات وتنوعها وصراع الأفكار وتنافس الاتجاهات وتنوع الآراء وتبادل النقد على مرأى ومسمع ومشاركة من الجميع...
كما أنه على المستوى الفردي فإن جهل الإنسان بطبيعته التلقائية قد ألحق به الكثير من المعاناة ولو أدرك الناس أن التلقائية هي جوهر طبيعتهم لجنبوا أنفسهم أنواعاً كثيرة من الارتباكات فعلى الإنسان أن يوسع تجاربه وأن ينوع اهتماماته، وأن يندفع دائماً لتجديد تلقائيته وأن يستعيد في ذاته الإثارة النافعة كلما خبت ليثري حياته ويسهم في تقدم مجتمعه وفي تنمية الحضارة وعليه أن يتحمل القلق وكل ما يترتب على ذلك من تأرجح دائم بين الانتظام والاقتحام، وبين الرتابة المملة والإثارة النافعة كما أنه إذا أدرك طبيعته التلقائية فسوف يمرن نفسه على السلوك التلقائي مع هذه الطبيعة المتأرجحة ويتعايش معها بواقعية ويستثمرها بوعي وتنظيم ويجنب ذاته قدر الإمكان المواقف المحرجة أو المقلقة أو المضجرة التي تنتج عن الجهل بطبيعته التلقائية مثل الملل والخجل والأرق ورتابة الحياة الزوجية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.