الجنيه الإسترليني يرتفع مقابل الدولار الأمريكي وينخفض مقابل اليورو الأوروبي    انخفاض أسعار النفط في أكبر خسارة أسبوعية في ثلاثة أشهر    بيان «الصحة» عكس الشفافية الكبيرة التي تتمتع بها الأجهزة الحكومية في المملكة    "الترفيه" تنظم عروض "سماكداون" و "ملك وملكة الحلبة" في جدة الشهر الجاري    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    اليوم المُنتظر    «النصر والهلال» النهائي الفاخر..    بأمر الملك.. إلغاء لقب «معالي» عن «الخونة» و«الفاسدين»    «الأونروا»: الصراع في غزة مستمر ك"حرب على النساء"    عقد المؤتمر الصحفي لبطولة "سماش السعودية 2024" في جدة    جريمة مروّعة بصعيد مصر.. والسبب «الشبو»    أمانة الطائف تنفذ 136 مبادرة اجتماعية بمشاركة 4951 متطوعًا ومتطوعة    أبها يتغلب على الاتحاد بثلاثية في دوري روشن وينعش آماله في البقاء    المملكة وأذربيجان.. تعاون مشترك لاستدامة أسواق البترول ومعالجة التغير المناخي    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام أبها    صدور بيان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة بين المملكة وجمهورية أذربيجان    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    بعد نحو شهر من حادثة سير.. وفاة نجل البرهان في تركيا    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    31 مايو نهاية المهلة المجانية لترقيم الإبل    نمو الغطاء النباتي 8.5% بمحمية "الإمام تركي"    مدير «الصحة العالمية»: الهجوم الإسرائيلي على رفح قد يؤدي إلى «حمام دم»    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على التعاون    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    المعرض السعودي للإضاءة والصوت SLS Expo 2024 يقود التحول في مستقبل الضوء الاحترافي والصوت    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    قصة القضاء والقدر    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطبيب الذي هزَّ العالم بالحرب وليس في الطب
نشر في الرياض يوم 30 - 12 - 2012

لعل القارئ قد لاحظ أنني لا أكتب عن تشي جيفارا لشخصه ولكنني أكتب عنه لإبراز بعض مفاتيح الطبيعة البشرية فالإنسان كائنٌ تلقائي فهو مقودٌ بقيمه العميقة وباهتماماته الذاتية التلقائية.. إنه يندفع لما يؤمن به وليس لما تلقَّى معلومات عنه إنه يسعى لتأكيد ذاته والدفاع عن كرامته والانتقام ممن يحاول تحقيره أو إذلاله أو العدوان على حقوقه
من أكثر الأوهام شيوعاً وأشدها ضرراً الربط بين التعلُّم المدرسي الاضطراري والإبداع لأن الأول مناهضٌ للثاني فهو تأطيرٌ وتقييدٌ وحصْر.. إنه يخلق عادات ذهنية تذيب النزعة الفردية وتقضي على قابليات استقلال التفكير.
إن قادة الفكر والفعل والإبداع ورواد التقدم وحُداة الازدهار لايمكن التخطيط لإنتاجهم وإنما هم نباتٌ استثنائي نادر يتعذر استنباتهم قصداً لكنهم رغم ندرتهم فإنهم ينبتون تلقائيًّا في أي أرض مهما كانت قاحلة ويَنْمون في أية بيئة مهما بلغت من الجفاف والقحط، ويؤكدون فاعليتهم حتى لو لم يُستَجَبْ لهم إلا بعد قرون فتبقى ريادتهم حيَّة حتى يأتي جيلٌ يدرك قيمة هذه الريادة..
إنهم خارج النسق فهم نتاج أنفسهم لذلك فإنهم ينظرون إلى النسق السائد بفكر فاحص وعقل ناقد ورؤية مغايرة، إن وجود مسافة ذهنية كافية بينهم وبين السائد تُمَكِّنهم من الرؤية الفاحصة المحلِّلة فهم غير مؤطَّرين ذهنيًّا ما يجعلهم يدركون الإعاقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تكبل مجتمعاتهم وتستبقيها مستسلمة للواقع مهما بلغ من السوء وبهذا الاختلاف النوعي بين الرؤية الريادية الخارقة والرؤية المنغلقة السائدة يتحقق انبثاقُ الطفرات الحضارية فالرائد الخارق ليس محكوماً بالمعايير والتصورات والمفاهيم السائدة فهو في الغالب ضدها وتحركه رؤية مضيئة مغايرة...
إن الأعمال الريادية تمثل طفرات نوعية خارقة لذلك فإنه ليس غريباً أن يظهر العديد من أبرز قادة العصر من بين الأطباء أو من أي مجال آخر فالرواد غير محكومين بأي تخصُّص ولا محدودين بأي إطار فهم أوعى وأقدر وأشد تحرراً وانطلاقاً من أن يخضعوا للتأطير أو التنميط أو التحديد أو ما لاحصر له من القيود والحدود والأوهام التي تصاحب التخصُّص في المجتمعات المتخلفة التي اعتادت على أولوية التقييد وتقزيم المفاهيم...
إن الطبيب الصيني صن يات صن قاد ثورة الصين وحرَّر من أغلال التاريخ أكبر تَجَمُّع سكاني على وجه الأرض وخلَّصهم من ركام العصور وفَتَحَ للصينيين أبواب الأمل وهيَّأهم للانطلاق في مجالات التحديث فأدخلهم في حضارة العصر.
إن خروج الصين من عزلتها الطويلة الخانقة كانت بتأثير وقيادة صن يات صن ثم ظَهَرَ ماوتسي تونغ بعد أن تهيأتْ له الأمة...
كما أن الطبيب الفرنسي جورج كلمنصو قاد فرنسا إلى النصر في الحرب العالمية الأولى وقبل ذلك وبعده كان صحفيًّا لامعاً ومخاصماً عنيداً وناقداً حادًّا ومثيراً للجدل الموقظ فقد كان أحد قادة التصحيح وحُداة التقدم...
وإذا كان صن يات صن قد فَتَح عقول الصينيين على أضواء العصر ودفعهم إلى أن يَهُبُّوا لنداء الحرية وكذلك قاد كلمنصو فرنسا إلى النصر وأعاد الحرية والأمن للفرنسيين فإن مهاتير محمد قد انتشل ماليزيا من قاع التخلف إلى ذروة الازدهار وليس هؤلاء القادة الباهرون سوى نماذج من الأطباء الرواد والقادة الذين كانوا نتاج ذواتهم.
لقد انفكوا من أسْر التخصُّص وتحرروا من ضيق التأطير فانطلقوا في آفاق الإنجاز والإبداع...
وإذا كان يَظْهَرُ قادةٌ عظماءُ من بين الأطباء فقد ظَهَرَ منهم أيضا في الاتجاه المعاكس من أمثال زعيم صرب البوسنة الطبيب رادوفان كرادجيتش الذي قاد عمليات الإبادة ضد مسلمي البوسنة. وقبل سنوات أقْدَم طبيبٌ اسرائيلي على قتْل المصلين في الحرم الإبراهيمي بشكل عشوائي بالغ الفظاعة والرعونة فالناس محكومون بالدوافع العميقة المستكنَّة في نفوسهم أما التعليم النظامي الذي ينتظمون فيه اضطراراً فهو مكوِّنٌ سطحيٌّ إنه في أحسن حالاته لا يتجاوز هدفه المهني كتأشيرة لدخول مجال العمل ووسيلة من وسائل توفير لقمة العيش...
أما الطبيب الذي هزَّ العالم بالحرب وليس في الطب في الرُّبع الثالث من القرن العشرين فهو الطبيب الأرجنتيني تشي جيفارا الذي كان في تلك الحقبة على كل لسان وكانت صوره تُرفع في المكاتب وغرف النوم في كل العالم وكانت أخباره تملأ الأجواء ووسائل الإعلام وكان المواليد يحملون اسمه حتى لو كانوا من البنات مثل المراسلة التلفزيونية جيفارا البديري. وقد وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأنه : (أكثر الرجال كمالا في عصره) فقد كان إنساناً حالمًا بل كان هائمًا في أوهام وأحلام إمكانية توحيد الإنسانية كلها للقضاء على الحواجز الحدودية والعنصرية والطبقيَّة وإنهاء المظالم والمشاحنات.
واندفاعًا مع هذا الوهم الحالم كان يعتقد أن البشرية لن تجد سببًا للحروب والنزاعات بعد القضاء على أسبابها لذلك كان يواصل إشعال التمرد في أي مكان قابل للاشتعال ويخوض نيران حرب العصابات لإنهاء الحروب المنظَّمة إلى الأبد لأنه كان يحلم واهمًا بالقضاء على أسبابها ليسود العالمَ السِّلمُ الدائم كان يقول : (لايهمني كيف ومتى سأموت لكن يهمني أن يبقى أكبر عدد من الثوار يملأ الأرض ضد الظلم والاستبداد والفقر) وهو بذلك من أشد الحالمين إيغالاً في الخيال والوهم. لقد سيطر عليه هذا الحلم المحال فاستغرق تفكيره ووجَّه سلوكه وأجَّج نشاطه وأوقعه في تناقضات حادَّة ففي سلوكه مايؤكد شدة ألمه من شيوع الظلم والفقر والقهر والاستبداد واحتراقه من أجل تحقيق المساواة الإنسانية المطلقة لكنه بالمقابل كان قاسياً وفظيعاً بل كان متوحِّشاً في موقفه ممن يَعتقد أنهم السبب في شيوع الظلم والقهر والفقر فانقسم سلوكه بين الشفقة المتناهية والقسوة المتوحشة...
إن قراءة سيرة تشي جيفارا والتعرف على أفكاره ومواقفه وسلوكه تقدم شاهداً نموذجيًّا على صدق مقولة المفكر المبدع آرثر كستلر فهو يرى أن المؤمنين بفكرة حالمة يصابون بعمى مطبق فيعتقدون أن السلحفاة أسبق من حصان السِّباق يقول كُستلر في كتابه (الخمور الفكرية) : (إن الإيمان قوةٌ عجيبة حقًّا إنه ليس قادراً فقط على زحزحة الجبال إنه يستطيع أن يجعلك تؤمن بأن سمكة الرنجة حصانُ سباقٍ).
إن المؤمنين المنغلقين على فكرة مهيمنة أو مُعْتَقَد مستغرق يكونون غير مستعدين لأي قدر من الشك فيما آمنوا به ولا يسمحون لأي بصيص من الضوء يخترق إيمانهم المطلق كما هي حال الماركسيين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وهو المعنى الذي جاهد لتأكيده غوستاف لوبون وغيره من المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس الاجتماعي كما شرحه بنجاح باهر إيريك هوفر في كتابه (المؤمن الصادق : أفكارٌ حول طبيعة الحركات الجماهيرية) وقد تَرْجَمَهُ إلى العربية الفقيد العظيم غازي القصيبي..
إن هؤلاء الحالمين المندفعين هم رواد التقدم لكنهم أحياناً يمعنون في الجنوح فيصيرون رُوَّادًا للقتل والتدمير ونَشْر الرعب لأنهم يحلمون بصياغة الوجود الإنساني صياغة جديدة مغايرة لما هو قائم مغايَرةً تامة ويستبيحون الفظائع من أجل أحلامٍ واهمة غير قابلة للتحقيق...
كان جيفارا من أكبر الحالمين فقد آمن إيماناً عميقًا أعمى بإمكانية تحقيق المساواة التامة المطلقة بين الناس وكان يعلن أن أحلامه لاتعرف أيَّ حدود ومع كل هذه الثقة بالمستقبل فقد كان يدرك أثقال الواقع ويرى الموانع الصلدة الراسخة التي تحول دون تحقيق هذا الحلم الإنساني العظيم لكنه كان يواجه هذا الواقع الراسخ بذلك النداء الذي يبدو متناقضاً لمن لايعرف تفكير جيفارا وأحلامه الواهمة فقد كان يقول : (كونوا واقعيين واطلبو المستحيل) فكأنَّ الجملة الأولى تتناقض مع الجملة الثانية فكيف يكونون واقعيين وفي الوقت نفسه يَطْلُبون المحال؟! فالواقعية مضادَّة للمحال لكن جيفارا أراد أن يؤكد بأن الواقعية تعني إدراك كل الموانع الثقيلة الراسخة فالواقع مُدَجَّج بالحصون المنيعة وبالحمايات النفسية والمادية القوية غير أنه أراد في نفس الوقت أن يخلق في الأذهان تصوراً جديداً عن الواقع بأنه قابلٌ للزوال مهما كان راسخاً ومهما بلغت قوة القلاع التي يتحصَّن بها، ويَقْظة الحراسات التي تحميه وبأن المأمول مهما بدا محالاً قد يتحقق فالتصورات عن رسوخ الواقع والاعتقاد باستحالة تغييره هي التي توهن العزائم وتئد المبادرات وتوقف المحاولات بينما حين نتأمل تاريخ الحضارة نجد أن ما كانت التصورات السائدة تَعتبره من المحالات فإنه بالتصورات الجديدة المغايرة وبالجهود الريادية الخارقة قد صار واقعاً شائعاً بل بات من بداهات الحياة وليست الطائرة والهاتف والتلفزيون والديمقراطيات المستقرة سوى بعض ماكان يُعتبَر من أبعد المحالات فإذا هي بالريادات الخارقة وبالاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية صارت واقعاً يعيشه الناس ولا يلفت نظرهم وكأنه من بداهات الحياة منذ الأزل.. ومثل ذلك يقال عن الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يُنظَر إليها بأنها من الثوابت التي لايمكن تغييرها فرؤيتنا عن الممكن والمحال إيجاباً أو سلباً هي التي تقود إلى النجاح أو الإخفاق...
إن علينا أن نتعرَّف على محتويات أعماقنا وأن ندرك أن الجهود الخارقة والمغامرات الخطيرة تنبع من دوافع عميقة متأجِّجة مخالطة للعقل والوجدان فالإنسان لايندفع لأنه حصل على معلومات بل يستخدم المعلومات لتفعيل وإنجاح منظومة القيم العميقة التي تحركه وتحقيق الأهداف والاهتمامات التي تؤرقه وفي هذا الصدد يورد الكاتب الروسي فاسيلي أكسيونوف في كتابه (البحث عن أنشودة الفتى الحزين) قصةً حدثت لجيفارا في وقت مبكر من حياته حوَّلته من إنسان معجب بل مغرم بكل ما هو أمريكي إلى ثائر يتأجَّج كُرْهاً لأمريكا ولأي شيء يمتُّ إليها بأية صلة وهي قصة تحمل دلالة كبيرة وعميقة عن الطبيعة البشرية وعن الدوافع الأشد قوة والأكثر عمقاً والأدْوَم تأثيرًّا فلو كان هذا الموقف من جيفارا يمثل حالة فردية خاصة لما كانت له أهمية وإنما تأتي أهميته البالغة من أنه امتدادٌ لظاهرة بشرية عامة فالإنسان يسعى لكسب الاحترام، ويفرُّ من العار ولا يتحمَّل الإهانة فقد يموت دفاعاً عن كرامته أو سمعته أو انتقاماً ممن يتسبب في إذلاله وكما يقول الفيلسوف الأكبر هيجل : ( في البدء كان الصراع حتى الموت من أجل التميُّز وحده ).
ومن هنا تأتي أهمية قصة جيفارا التي ألهبَتْ حقده على أمريكا فقاد ضدها حروباً شعواء في أمكنة عديدة من العالم بعد أن كان مغرماً بكل ما هو أمريكي فيقول فاسيلي أكسيونوف: (مازلت مندهشاً ما هو الذي يجعل عدداً من الناس في أمريكا اللاتينية وروسيا وأوربا يُظهر المشاعر المعادية لأمريكا بهذا القدر من العنف ؟!!
هناك شيءٌ غريب هستيري يكتنف هذا كله !!) ثم يقول : (ذات مرة سأل شاعرٌ سوفياتي الثائر جيفارا لماذا يكره أمريكا ذلك الكره الشديد فشنَّ جيفارا هجوما عنيفا على الامبريالية الأمريكية واستعبادها الأمم النامية اقتصاديا من خلال الاحتكارات الجشعة والتوسع وقَمْع حركات التحرر الوطنية وما إلى ذلك ولكن الشاعر السوفياتي وجَدَ أن إجابة جيفارا السياسية لم تكن شافية فاستفسر منه عما إذا كان هناك شيءٌ شخصيٌّ وراء مشاعره وبعد بضع لحظات من الصمت شَرَعَ جيفارا يروي قصةً غريبة سأرويها كما سمعتها من الشاعر ..
كان جيفارا يُقَدِّس الولايات المتحدة الأمريكية عندما كان صبيًّا مراهقًا كما كان مولعًا بأفلام رعاة البقر التي تُخرجها هوليود وأحدث ألوان موسيقى الجاز وبينما كان ذات يوم راكبًا دراجته مارًّا بجوار المطار إذا به يرى طائرة يجري تحميلها بمجموعة من جياد السِّباق إلى أمريكا) ولئلا يطول سرد القصة نكتفي بأن نشير إلى أنه خَطَر في باله أن ينتهز الفرصة فيختفي في الطائرة مع الجياد ليحقق حلمه فيصل إلى أمريكا وهو الشيء الذي فَعَلَ وحين اكتشفه الأمريكيون بعد وصول الطائرة إلى أمريكا ضربوه وأذلوه وأعادوه إلى وطنه كسيرًا مهانًا وقد صَرَّح بقوله : ( لن أغفر لهم أبدًا ماصنعوه بي في تلك الطائرة) وأضاف بغضب : (أكره كل الأمريكيين وأصواتهم الهادئة ومشيتهم المتغطرسة ونظرتهم الواثقة وابتساماتهم البذيئة) ..
هكذا هو الإنسان لايحركه سوى الدوافع العميقة المتأججة في أعماقه أما المعلومات الباردة فيضطر لحفظها ثم يتحرر منها بالنسيان بعد أن تؤدي المهمة الشكلية..
إننا نبالغ مبالغة ساذجة في تأكيد أهمية المعلومات ونعلق آمالاً عريضة على التعليم النظامي بأسلوبه القسري ومحتواه الجامد الثقيل ونغفل عن أن الإنسان تحركه اهتماماته ومنظومة قيمه فالمعلومات لاتكون مهمة وذات فاعلية إلا بقدر توافقها مع القيم العميقة المحرِّكة والاهتمامات التلقائية المثيرة...
إن أهم قيمة عند الإنسان هي ذاته وقد لاحظ كثير من الفلاسفة كما لاحظ علماء النفس بأن سعي الإنسان لكسب الاحترام ونيل المكانة الرفيعة والخوف من العار والفرار من أسباب الاحتقار من أقوى دوافع السلوك البشري لذلك فإن الإنسان يجتاحه الخوف من العار ويحركه الرعب من فقدان الاحترام ويتأجَّج غضباً إذا أهين أو تعرَّض لأي لون من ألوان الإذلال أو الاحتقار.
إن هذا الدافع ذو فاعلية حاسمة ودائمة سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات أم المجتمعات أم الأمم فالهوان الذي أحسَّ به الألمان بعد الحرب العالمية الأولى هو الذي دفعهم إلى الالتفاف القوي الجارف حول هتلر فاستجابوا له تلك الاستجابة العارمة التي زلزلتْ العالم ودمَّرتْ أوطاناً وانتهت بإزهاق حياة خمسين مليونًا من البشر...
إن حياة تشي جيفارا في جوانب متعددة منها تؤكد بأن الإنسان بما ينضاف إلى قابلياته بغض النظر عن ضعف أو قوة جسمه فقد وُلد قبل أوان ولادته بشهر فنشأ عليلاً هزيلا وعاجَلَهُ مرضُ الربو ولازمه طول عمره وبسبب ذلك أُعفي من الخدمة العسكرية لكنه بتنشئته على الاستقلال والإقدام وباهتمامه التلقائي القوي المستغرق كابد أثناء قيادته لحرب العصابات أقسى الظروف وعاش وسط الغابات التي ينتشر فيها حَبُّ اللقاح فيشتد عليه الربو لكنه واجه ذلك بعزيمة وصبر واندفاع وكل هذا يؤكد فاعلية الرغبة العميقة التلقائية كما يقدِّم شاهداً إضافيًّا على خرافة ما يقال من أن : (العقل السليم في الجسم السليم) بينما نجد أن الواقع يخالف ذلك مخالفة تامة فالإنسان من الناحية الفكرية والوجدانية والإقدام والإحجام والإرادة والسلوك ليس بجسده وإنما بما ينضاف إلى قابلياته وبما يتبرمج به فهو محكومٌ بما تتلقاه قابلياته التي تأتي مفتوحة وفارغة وقابلة لأية صياغة ولأي محتوى...
كان جيفارا مغامراً منذ طفولته رغم هزال جسده وقد قام وهو طفل بجولة في بلدان أمريكا الجنوبية على دراجة هوائية وشجَّعه أبوه على ذلك من أجل أن يعتاد قسوة الحياة وكان ينام في العراء.
لقد عاش حياةً كلها حركة وانتقال وتغيير وهروبٌ من التقييد ونفورٌ من التكيُّف مع الواقع فبعد سنة من تخرجه في كلية الطب انتقل إلى المكسيك وانضم إلى فيدل كاسترو وتولَّى تنظيم وتدريب الثوار مدة أربع سنوات ثم انقضُّوا على كوبا وكان هو أوَّل الداخلين في هافانا وحين تم تشكيل حكومة الثورة لم يتم اختياره لوزارة الصحة بوصفه طبيباً بل صار رئيساً للمصرف الوطني المركزي الكوبي ثم وزيراً للصناعة ثم ترك كوبا وزار بلداناً كثيرة مثل مصر والجزائر والصين وغيرها ثم عاد وانخرط مرة أخرى في حرب العصابات حتى تم اغتياله فودَّع الحياة قبل أن يبلغ الأربعين من العمر ولكنه بهذا العمر القصير خَلَق لنفسه أسطورة مازالت تتردد أصداؤها في كل العالم...
الغريب في الأمر أنه بقي مصرًّا على مواصلة إشعال الثورات وتأجيج حروب العصابات رغم أنه كان مفجوعاً من النتائج فقد كتب يقول : (الثورة يصنعها الشرفاء ويرثها ويستغلها الأوغاد)، وكان حريًّا بهذا الاكتشاف الفاجع أن يوقظه من الأوهام الحالمة التي سيطرت عليه لكنه بقي إلى آخر لحظة من حياته يواجه المشاق ويخوض المعارك مدفوعاً بإيمانٍ راسخ قد استحوذ على نفسه واستغرق تفكيره فأفرغ فيه كل نشاطه ورَهَنَ ذاته له حتى تم اغتياله !!! وربما أن هذا يؤكد أن حقده على أمريكا بسبب تلك الإهانة التي تلقاها مراهقًا كان الدافع الأعمق لكل ذلك الضجيج الذي ملأ به الأرض...
ولعل القارئ قد لاحظ أنني لا أكتب عن تشي جيفارا لشخصه ولكنني أكتب عنه لإبراز بعض مفاتيح الطبيعة البشرية فالإنسان كائنٌ تلقائي فهو مقودٌ بقيمه العميقة وباهتماماته الذاتية التلقائية.. إنه يندفع لما يؤمن به وليس لما تلقَّى معلومات عنه إنه يسعى لتأكيد ذاته والدفاع عن كرامته والانتقام ممن يحاول تحقيره أو إذلاله أو العدوان على حقوقه أو الاستهانة باهتماماته أو الاستخفاف بقيمه حتى لو كانت هذه الاهتمامات وهذه القيم هي سبب بؤسه وتخلُّفه وهوانه...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.