إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي في "محمية الإمام عبدالعزيز"    القيادة تهنئ رئيسي توغو وسيراليون بذكرى الاستقلال لبلديهما    «الاحتياطي الفدرالي» يتجه لتغيير لهجته مع عودة التضخم    جعجع: «حزب الله» يعرّض لبنان للخطر    "البنك الإسلامي" يستعرض أهم الطرق إلى الازدهار وتحدي الفقر    مدرب توتنهام : لا ارغب في تعطيل سعي أرسنال للتتويج    ضبط 19,050 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في أسبوع    «الداخلية»: تنفيذ حكم القتل بجانٍ ارتكب أفعالاً تنطوي على خيانة وطنه وتبنى منهجا إرهابياً    جامعة حائل: اختبار «التحصيلي» للتخصصات النظرية شرط للقبول السنوي للعام الجامعي 1446    ابن البناء المراكشي.. سلطان الرياضيات وامبراطور الحساب في العصر الإسلامي    عهدية السيد تنال جائزة «نساء يصنعن التغيير» من «صوت المرأة»    أمطار خفيفة على منطقتي جازان وحائل    فرصة مهيأة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    الأهلي والترجي إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا    اتفاقيات مع الصين لبناء آلاف الوحدات السكنية    عسير تكتسي بالأبيض    بيانات التضخم الأمريكي تصعد ب"الذهب"    مطار الأحساء يطلق رحلة إضافية مباشرة لدبي    فريق طبي سعودي يتأهل لبرنامج "حضانة هارفرد"    بينالي البندقية يزدان بوادي الفنّ السعودي    كبار العلماء: من يحج دون تصريح "آثم"    "طفرة" جديدة للوقاية من "السكري"    إغلاق منشأة تسببت في حالات تسمم غذائي بالرياض    الأحمدي يكتب.. الهلال يجدد عقد السعادة بحضور جماهيره    الصحة: تماثل 6 حالات للتعافي ويتم طبياً متابعة 35 حالة منومة منها 28 حالة في العناية المركزة    اختتام المرحلة الأولى من دورة المدربين النخبة الشباب    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    الإعلان عن تفعيل الاستثمارات المباشرة وانطلاق العمل الفعلي في صندوق "جَسور" الاستثماري    وفاة الأمير منصور بن بدر    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 686 مليون ريال    جيسوس يفسر اشارته وسبب رفض استبدال بونو    الاتحاد يخسر بثلاثية أمام الشباب    "الشؤون الإسلامية" ترصد عددًا من الاختلاسات لكهرباء ومياه بعض المساجد في جدة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    رؤية الأجيال    وزيرة الدفاع الإسبانية: إسبانيا ستزود أوكرانيا بصواريخ باتريوت    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «الدفاع الروسية» تعلن القضاء على ألف وخمسة جنود أوكرانيين في يوم واحد    منتخب اليد يتوشح ذهب الألعاب الخليجية    المخرج العراقي خيون: المملكة تعيش زمناً ثقافياً ناهضاً    "السينما الصناعة" والفرص الضائعة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور قيادة القوة البحرية بجازان    توافق مصري - إسرائيلي على هدنة لمدة عام بقطاع غزة    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    "الأرصاد": لا صحة لتعرض المملكة لأمطار غير مسبوقة    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    مقال «مقري عليه» !    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم سوف يشهد تغييرات نوعية في التعليم
نشر في الرياض يوم 06 - 05 - 2012

مع طوفان المعلومات الهائل وبعد أن توفرت للجميع الوسائل الآلية وغيرها للحصول بمنتهى السهولة على أي معلومة في مختلف المجالات فإن العالم سوف يشهد خلال السنوات القريبة القادمة تغيرات جذرية في التعليم وفي المؤسسات التعليمية وفي التعامل مع الذين يعتمدون على أنفسهم للحصول على المعارف المتنوعة المتاحة وتأهيل أنفسهم لحياة دائمة التجدد والتغير فلا يبقى سوى التحقق عملياً من قدرة كل فرد على الأداء في المجال الذي استحوذ على اهتمامه واستفرغ فيه طاقته وبهذا التحول المنتظر قريباً تنتهي معاناة الملايين من تضييع أعمارهم في تجرع معلومات لا يسيغونها ولا يشعرون أنهم بجاحة إليها.
إن طبيعة الإنسان التلقائية تستوجب إحداث تغييرات جذرية في مؤسسات التعليم واختصار المراحل وتقليل المواد والتعامل المباشر مع مشكلات الإنسان وصعوبات الحياة والاستغناء عن الكثير من الشكليات ، بل إنني أجزم بأن العالم سوف يتخلى مستقبلاً عن الشهادات ويجعل القدرة العملية والإنجاز العملي ومهارات الأداء هي معيار التأهيل
ومعلوم أنه بتعميم التعليم منذ فجر العصر الحديث صار كل فرد يقضي ربع قرن من عمره لتهيئته للدخول في مجال العمل وبهذا تضيع أعمار الأجيال في محاولة تهيئتهم للعمل لكنهم ينتهون غالباً من دون أن يكتسبوا مهارات مهنية باستثناء الأطباء لأن دراستهم عملية ونظرية معاً أما غيرهم فيتخرجون من غير تأهيل حقيقي فلا يستوعبون معرفة نظرية ولا يكتسبون مهارات عملية لأن انتظام الدارسين في التعليم لم يكن بدافع الرغبة التلقائية في العلم ولا هو نتيجة الشعور الذاتي بالحاجة إليه ويضاف إلى ذلك إغفال الاختلاف النوعي بين مجال تحصيل المعرفة النظرية ومجال اكتساب المهارات العملية مما جعل التعليم النظامي النظري ضئيل النفع ما لم يكن التدريب العملي عنصراً أساسياً فيه كما هو حال تعلّم الطب.
إن مراحل التعليم النظامي في كل العالم تمتد امتداداً مفرطاً يكاد يستغرق أزهى وأنشط أعمار الأجيال أما الذين يواصلون الدراسات العليا فتزداد إمعاناً في استغراق سنوات العمر فالدارس بعد حصوله على الدكتوراه لا يكاد يكتسب خبرة كافية في العمل وينضج في المماسرة العملية حتى يبلغ سن التقاعد وبهذا فإن سنوات التهيئة للعمل صارت أطول من سنوات العمل ذاته!!!...
إن التعلّم هو ثمرة التفاعل العميق بين الذات العاملة والعمل الذي يراد إنجازه فتتلاحم قابلياته وتتآزر قدراته وتتفتح أمامه طرق الأداء ومسالك الإنجاز وكما قال المبدع الفرنسي إكزوبري: «إن الأرض تفيدنا عن أنفسنا أكثر مما تفيدنا كل الكتب لأنها تقاومنا» فما يقاوم اتجاه الفرد يستنفر طاقته إن الإنسان وهو يجابه مشكلات الحياة يبحث عن مخارج للخلاص من المخانق وعن حلول للمشكلات التي تعوق تطلعاته وبذلك يكتسب معرفة وقدرة فمقاومة الرغبة والبحث عن المنافذ لتحقيقها تُنَمي القدرة أي أن مشكلات الواقع تُعلّم الإنسان فالإنسان يتعلّم من المواجهة المباشرة مع عوائق الحياة وليس من اضطراره لحفظ معلومات لم يشعر بحاجته إليها ولم تدفعه الرغبة للبحث عنها فيعاني من الكلال والملل والنفور والانسداد بدلاً من أن يتفاعل معها من أعماق ذاته.
إن التشرُّب التلقائي السريع والمتقن للغة وللثقافة التلقائية في السنوات الأولى للطفولة مقارنة بضآلة نتائج التعليم الذي يمتد عشرين عاماً يؤكد أن قابليات الإنسان لا تنفتح إلا من داخل الذات وليس من خارجها فحرمان الأطفال من الاحتكاك المباشر والمبكر بالعمل بدعوى المحافظة على براءة الطفولة أو الخوف عليهم من المتاعب والادعاء الواهم بأنه يعوق النمو قد أدى إلى تأخير النضح وربما أنه أدى إلى تضييع إمكانات النضج فالنضج مثل اكتساب اللغة لا بد أن يتحقق بالتفاعل التلقائي الجياش مع الحياة كما هي حالة اكتساب اللغة ضمن فترة الطفولة فإذا تجاوزها الطفل من دون أن يتاح له الاكتساب فإنه يصعب تداركه فإذا تجاوز العتبة العُمرية صار الاكتساب محالاً فالمشاركة المبكرة في الحياة العملية لا تعني الإرهاق أو الإنهاك النفسي والبدني وإنما تعني المشاركة والانطلاق والتفاعل الإيجابي مع شؤون الحياة اليومية..
إن نظرية التلقائية التي توصّلت إليها تنتهي إلى أن إبعاد الأطفال عن الاحتكاك المباشر والمبكر بعوائق الحياة هو الذي أدى إلى استمرار الفجاجة والهشاشة في التعامل مع صعوبات الواقع ونتج عن هذا الإمحال البيئي والفراغ النفسي هذا الكلال في العمل وهذا الانغلاق في الفكر وهذا الضعف في التعلّم فلا بد أن يكون التعليم مكتظاً بالنشاط والحركة ومواجهة المشكلات كما أنه يجب اختصار سنوات الدراسة ودمج مراحل التعليم ليتاح لهم الدخول في مجال العمل الملتزم والمنتظم بعد الثامنة عشرة أو قبل ذلك..
إنني أجزم أن الأيام سوف تكشف أنه بالنسبة لعموم الدارسين لا مبرر لهذا الطول المفرط في الانقطاع التام للتعليم النظامي ولا جدوى من كثرة المواد الدراسية لقد لاحظ كثيرون من علماء التربية خلال القرون الثلاثة الماضية في مختلف الأقطار ضآلة النتائج رغم هذا الطول المفُرط لمراحل التعليم فتعددت النظريات وتنوعت التجارب وتباينت الاقتراحات وتضاربت الرؤى لكن النتائج ما زالت هزيلة فمشكلة الضياع والهدر في الأعمال والأعمار والأموال ما زالت قائمة فأين يكمن الخلل..؟؟
إن الخلل يكمن في انفصال التعليم عن حركة الحياة وعدم إحساس الدارسين بتفاعل المواد مع واقعهم اليومي فنتج عن ذلك حضور الملل والسلبية والانسداد وغياب التفاعل وبذلك غابت الرغبة التلقائية في العلم وانتفى الشعور بالحاجة الذاتية الملحة إليه فما يجب تداركه هو التعليم من خلال العمل وتكوين الرغبة الجياشة الدائمة في التعلّم والتدريب على حُسن التفكير وخلخلة التلقائية البليدة واستنفار العقل وغرس الإيمان بقيمة العلم ولن يكون ذلك بإعطاء المعلومات مهما بلغت من التنوع والكثافة والجدة بل لا بد من إثارة تساؤلات مستفزة وخَلْق إشكالات مزلزلة لكي يندفعوا بأنفسهم للبحث عن الإجابات المريحة فالتعلّم الحقيقي يتطلب أن يتلاحم العقل مع العاطفة تلاحماً كاملاً فلا يتعلم من ينتظر أن تأتيه المعلومة من غيره ومن دون رغبة عميقة متوقدة أو حاجة ذاتية ملحة وإنما يتعلّم من تؤرقه حرقة الأسئلة فيبحث بعمق وينقب باهتمام ويقرأ باستغراق ويتطلع إلى الحقيقة بلهفة.
لذلك فإنني لا أشك في أن الإنسانية سوف تكتشف بمرارة شديدة فداحة ضياع الأعمار خلال أزمان طويلة لأجيال متتابعة وهي تستهلك أعمار الدارسين وتضطرهم إلى أن يتجرعوا مرارة التعليم دون رغبة في العلم ولا لهفة دافعة إليه فلقد نتج عن إغفال الطبيعة التلقائية للإنسان ضياعُ جهود عظيمة وإهدار طاقات هائلة وتبديد سنوات ثمينة من أعمار الدارسين خلال أجيال ممتدة متعاقبة وهذه خسارة فادحة على المستويات المحلية والإنسانية...
إن طبيعة الإنسان التلقائية تستوجب إحداث تغييرات جذرية في مؤسسات التعليم واختصار المراحل وتقليل المواد والتعامل المباشر مع مشكلات الإنسان وصعوبات الحياة والاستغناء عن الكثير من الشكليات بل إنني أجزم بأن العالم سوف يتخلى مستقبلاً عن الشهادات ويجعل القدرة العملية والإنجاز العملي ومهارات الأداء هي معيار التأهيل لأن الإنسان بطبعه يركز اهتمامه في المعيار الذي يحقق له الأهمية ويؤهله لوظيفة فإذا كانت الشهادات هي المعيار فسوف تكون هي هدفه فينحصر اهتمامه في الحصول عليها ويبقى محصّناً بها فهي تُزكّيه وتحميه وتحيط بهالة تمنحه الأهمية وتضمن له أوهام الكفاية فلا يكون ملزَماً عملياً لإثبات كفايته خصوصاً في المجتمعات المتخلفة التي لا تفرق بين المعلومات ومهارات الأداء مع أنهما حقلان مختلفان نوعيّاً...
إن التعلّم الحقيقي هو الذي يخالط الذات ويذوب في النفس ويتفاعل بقوة في كيان الفرد ويبقى جاهزاً ليفيض هَوناً أو تدفُقاً تلقائياً كلما دعت الحاجة لكن هذا التعلّم المخالط للنفس لا يمكن أن يحصل إلا بعد استثارة قوية كافية تؤدي إلى تدفُق الاندفاع من داخل الذات حتى تتفتح كل قابلياته للتشرب والتفاعل فالإنسان لا يتعلم تعلماً حقيقياً إلا برغبة ذاتية عميقة أو بإحساس شديد بالحاجة إليه لمواجهة مشكلة ملحة تحاصره فالإنسان كائن تلقائي لا يستقبل المعرفة قسراً وإنما يتشربها تشرباً بإلحاح ولهفة من داخله كما أنه لا يتدفق في الأداء اهتماماً وإنتاجاً وإتقاناً وإبداعاً إلا إذا جاء المدد من أعماق ذاته...
إن كبار العلماء الذين جربوا الشغف بالعلم واللهفة إلى الحقيقة وعاشوا مباهج الكشف يؤكدون على أولولية الإثارة والشغف والمتعة كشروط أساسية للتعلم فيقول عالم الفيزياء الشهير ريتشاد فينمان في كتابه (معنى هذا كله): «العلم هو الإثارة.. ثمنُ هذا كله هو التفكير المنظم والعمل العسير.. العمل الذي لا يجري من أجل تطبيق ما إنما يجري من أجل الإثارة التي نجدها فيما نكتشفه.. هذا هو السبب لحقيقي للعلم وبدون تفهم هذا لن يمكنكم إدراك الأمر فأنت لا تستطيع أن تفهم العلم وعلاقته بكل شيء آخر إلا إذا فهمت وقدّرت مغامرة زماننا الكبرى أنت لا تعيش عصرك إذا لم تفهم أن العلم مغامرة هائلة وأنه شيء جامح مثير» ولكن العلم المثير الجامج الذي تتجسد به أروع مغامرات العقل ليس هو العلم الذي يأتي من تعليم يؤكد للدارسين الامتلاك المطلق للحقيقة المطلقة وإنما هو العلم الذي نسعى إليه ونحن ندرك جهلنا فيه وحاجتنا الملحة إليه فالشعور الشديد بالحاجة إلى كشف الحقيقة يؤدي تلقائياً إلى الانهماك في البحث والاستغراق في الاهتمام وإبقاء العقل والعاطفة في حالة تلاحم تام واستنفار شديد فإذا تحقق الكشف تأججت البهجة كمن عَثَر على الماء بعد أن كاد الظمأ يُهلكه في الصحراء اللاهبة وعن ذلك يقول ريتشاد فيدمان: «إذا أمعنت النظر في أي شيء فلن تجد ما هو أكثر إثارة من الحقيقة» فليس أروع ولا أنبل ولا أنفع ولا أمتع من حقيقةٍ عظيمة تنكشف لواحد من العلماء بعد جهد مرهق ومثابرة طويلة ولهفة عميقة متجددة...
أما النقيض لهذه الإثارة التلقائية البهيجة فهو التجرع الاضطراري للتعلم على النحو الذي يرويه عن نفسه جون ماكسويل في كتابه (الفشل البناء) حيث يروي كيف يكون التعليم ضيئل النفع ومؤقت النتائج حين يقوم على الخوف من الرسوب وأن هذا الخوف قد دفعه إلى أن يجتهد في الحفظ وأن يتفوق وأن يجتاز الامتحان بامتياز ثم يقول: «ولكن بعد أيام نسيتُ كافة المعلومات لقد نجحت في تجنب الفشل الذي خفتُ منه ولكني لم أستفد شيئاً فعلياً» ثم يقول: «تخرجت من الجامعة وكنت من الخمسة الأوائل ولكن ذلك لم يعن لي شيئاً فقد لعبت لعبة الدراسة بنجاح وقد حفظت الكثير من المعلومات ولكني لم أكن مستعداً على الإطلاق لمواجهة الحياة وقد اكتشف ذلك في أول وظيفة لي فتجربتي الجامعية قد رسّخَت لدي المفاهيم الخاطئة» فالعلم لا يأتي قسراً ولا يتحقق حقنا فالتعلم تشرُّب أما الأداء فهو تدفق ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت المعرفة الممحّصة شوقاً عميقاً من أشواق النفس وأصبح الأداء فناً نؤديه برغية وننجزه بمتعة...
إن رتابة التعليم النظامي تسد منافذ العقل وتصيب العاطفة بالكلال فقابليات الإنسان لا تنفتح قسراً وإنما تنفتح بتوقد الرغبة واشتداد اللهفة وكما قال آينشتاين: «من خصائص الفن الحقيقي وجود رغبة لا تقاوم لدى الفنان المبدع» إن هذا التأجج الداخلي التلقائي الذي يصفه آينشتاين وهو صحب تجربة علمية مدهشة كانت زاخرة بالرغبة العارمة في الحقيقة والنشوة الغامرة في الكشف إن هذا المستوى من الرغبة في العلم والمتعة في الإنجاز تتطلب أن يرتقي الاهتمام بالعلم إلى مستوى أن يصبح قضية وجود بمعنى أن يقتنع المجتمع ويعتاد أفراده على أن ينظروا إلى العلم بإجلال وأن يندفعوا إليه اندفاعاً تلقائياً من أجله هو بوصفه قيمة عظيمة في ذاته وليس لكونه وسيلة لغاية أخرى كالحصول على وجاهة أو وظيفة...
إن التضحيات الكبرى والأعمال الانتحارية الفدائية التي يُظهرها بعض الأفراد في اختناقات الحروب أو في الصراعات الأيديولوجية تؤكد أن الفاعليات الإنسانية التي تبلغ أقصى المدى بالتضحية بالنفس هي نتاج الإيمان بقضية، ففي الحرب العالمية الثانية أظهر إفرادٌ من الجيش البريطاني من الطيارين وغيرهم روحاً فدائية مذهلة بل إن بعض المذاهب الأيديولوجية قد استطاعت تعبئة أتباعها تعبئة عجيبة حيث يقتحمون الموت ويستبسلون في سبيلها استبسالاً مذهلاً كما حصل من أتباع الطائفة الإسماعيلية المعروفة باسم (الحشاشين) وليسوا سوى مثال يتكرر كثيراً وهو دليل حاسم لتأكيد فاعلية الإيمان بقضية حتى وإن كان إيماناً خاطئاً، إن معركة التعليم مع الجهل والكلال والخواء والتخلف هي المعركة الحقيقية الدائمة فلا بد أن ترتقي قيمة العلم في نفوس الأجيال لتصبح قضية وجود وبذلك يتحقق التعلّم الحقيقي باندفاع تلقائي.
إنك لن تستطيع أن تدفع الناس لخوض المخاطر أو مكابدة المتاعب بمحاولة الإقناع العقلاني المحض ولكنك تستطيع ذلك حين تجعل العلم قضية وطن ومطلب أمة ومصير مجتمع فبذلك تتأجج العواطف وتحتشد الرغبات وتتفجر بغزازة واستمرار الطاقات الإنتاجية والإبداعية فبهذا وحده يمكن أن تجعل الدارسين يندفعون تلقائياً ليحققوا المعجزات تحصيلاً واهتماماً وإنتاجاً ومهارة وإبداعاً..
إن كبار القادة على مر التاريخ قد أدركوا أن العاطفة هي مهماز الطاقة الإنسانية فاستخدموا هذا المهماز بدهاء فائق فحققوا بهذا الاستخدام أمجاداً لا تمحوها الأزمان، إن الإسكندر العظيم لم يحقق فتوحاته الباهرة بمنطق العقل وحده ولا بمنطق القوة فقط ولكنه استطاع بدهائه الخارق أن يضاعف طاقة جيشه بأن جعلهم يؤمنون بأنهم يحاربون من أجل قضية إنسانية كبرى لنشر الحضارة وتحقيق التآخي الإنساني إضافة إلى الإثارة والتشجيع والمكافأة والثناء والتعاطف وتأكيد الاهتمام والحضور الجياش الملهم كما استطاع أن يستميل أعداءه وأن يتودد إلى الشعوب بإظهار الرأفة والمودة وإعلان التآخي الإنساني وإظهار أنه جاء لتحريرهم من الطغاة وليس من أجل التسلط عليهم أو قهرهم بل لإنقاذهم ونجدتهم فلقد كان سابقاً لعصره مسبقاً هائلاً...
إن نابليون بونابرت كما يعلم الجميع واحدٌ من أعظم القادة في التاريخ وكان يدرك أهمية العواطف في تحقيق النجاحات وبلوغ النصر فكان يجيد استخدامها لكي تسخو النفوس تلقائياً بأقصى ما تدخر من طاقة ولنفس السبب أظهر نابليون إعجابه الشديد بالحاسة السياسية الذكية للإسنكدر فقال عنه: «إن ما أقدره فعلياً في الإسكندر إنما هو حسه السياسي لقد كان يملك فن كسب تعاطف الناس» إن العواطف هي مفتاح الطاقات الإنسانية فالعقل ذاته لا تتفتح قابلياته للفدائية أو للتعلم أو للعمل أو لأي نوع رفيع من أنواع الأداء إلا بتأثير العواطف لقد لاحظ المؤرخون أن الذي مكن امبراطورة روسيا المعروفة باسم كاترين العظمى من تحقيق تلك الطفرة الحضارية لروسيا التي كانت قبلها غارقة في التخلف هو أنها اتبعت سياسة الاستمالة وجعل الناس يعملون ما يجب وكأنهم يحققون رغباتهم هم وكانت تقول: «على المرء أن يحكم بطريقة تجعل أبناء شعبه يعتقدون أنهم يريدون أن يقوموا بما يأمرهم به» إن الإنسان كائن عاطفي فهو يقاوم تلقائياً ما لا يتفق مع هواه وينفر من الإلزام ويريد أن يعمل باستقلال وفق إرادته الحرة فإن لم يتوفر ذلك تباطأ وتلكأ وأصيبت قابليته بالكلال والانكماش إنه ينشط تلقيائياً من أجل أن يحقق ذاته وأن ينال الاحترام الذي يستحقه وأن يحصل على الأهمية والمكانة التي يسعى إليها أو يحتدم نشاطه خشية الاستخفاف به أو احتقاره أو فقدان الأهمية فتحريك عواطفه هو الذي يفتح منافذ عقله لكي يستقبل العلم ويهضم ويتمثل كما أنه هو الذي يجعله يتدفق سخاء وإنتاجاً وقد يرتقي به هذا الاندفاع العاطفي إلى مستوى الإبداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.