من يتأمل توجّه السياسة السعودية وتحليل خطاباتها ومواقفها يلحظ نزوعها للتأكيد بأنها هي قلب الإسلام ومهد العروبة بما تملكه من إرث تاريخي، ومنظومة قيم ومقومات وقدرات، فضلا عن كونها جزءاً من هذا العالم الذي لا تستطيع الانفصام عنه، كونها لا ترضى بمقعد المتفرج والعالم من حولها يتغير، والكل يحث الخطى للمساهمة في تشكيل قسمات هذا العالم، ما يضع على كاهلها تحديا جديدا. هذه المنجزات التاريخية والمشاريع الكبرى والتوسعات التطويرية هي تأكيد لاضطلاع السعودية بمسؤوليتها الدينية، وإنها واجب وليست شعارا، فضلا عن التزامها بتكريس رسالتها الإسلامية في تعزيز الاعتدال والسلام والمحبة والتسامح والحوار. على أن القيادة السعودية على قناعة بأن ما يجمع الغالبية العظمى من شعوب العالم هو أكثر مما يختلفون عليه، بدليل ما لاقته دعوة خادم الحرمين للحوار بين الحضارات والثقافات وأتباع الديانات من أصداء طيبة كونها دعوة متأصلة ومنطلقة من وسطية الاسلام وسماحة شريعته، فالحوار هو وسيلة أساسية في تقارب الشعوب، وتوطيد العلاقات البشرية، ما يقطع الطريق على كل دعوة متطرفة في العالم لشرخ التواصل الإنساني، ولذلك فإن فكرة الحوار الذي يدعو له خادم الحرمين تدفع الجميع للتركيز على القواسم المشتركة التي تجمع بدلا من التشبث بالاختلافات التي تُفرق. وهذه الرؤية في تقديري تُجنب العالم أجمع - بمشيئة الله - مآسي الصدامات والنزاعات بين الحضارات والثقافات. وفي هذا السياق، تنطلق السعودية من مسؤولية دينية تعرف أبعادها وحجمها، وإن كان البعض لا يستوعبها او لا يرغب في الاعتراف بها لاسيما من اطراف تحاول إضعاف دور السعودية او التقليل مما تقوم به مع ان قدرها جعلها لتكون دولة محورية ومؤثرة رغم محاولات الحاقدين والحاسدين. ولعل ثقلها الدولي، فضلا عن عمقها العربي ومكانتها الإسلامية وضع على كاهلها مزيدا من الأعباء والواجبات والمسؤوليات، ما جعلها رقما صعبا في المنطقة لايمكن تجاوزه أو تحييده. ولعلنا هنا نستحضر القرار الذي صدر عن قمة التضامن الاسلامي بتبني اقتراح خادم الحرمين بإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية الذي جاء ليعكس بوضوح نهج السياسة السعودية ومدى فاعليتها واحترامها في المحيط الاسلامي. انبثق اقتراح الملك من حيثية مهمة تؤكد بأن "الأمة الإسلامية تعيش اليوم حالة من الفتنة والتفرق وأن الحل لا يكون إلا بالتضامن والتسامح والاعتدال. وهنا يكمن دور القائد الذي يحرص على مصالح أمته لأن تلك القرارات تتجاوز في الحقيقة مضامينها لأن لها كما أتصور بعدا حضاريا مفصليا في تشكيل مجتمعاتنا اجتماعيا وثقافيا، ما يعني مساهمتها في مواجهة وباء الطائفية والمذهبية اللذين استشريا في جسد العالم الاسلامي. ولعل اتخاذ مثل هذه الخطوات التنويرية والإصلاحية من قبل السعودية، يرسخ حقيقة استشعارها بالمسؤولية المناطة بها وأنها ليست شعارا يتم المتاجرة به بل هو واقع تترجمه على الارض بدليل عزمها على بلورة أفكار وصيغ للتقريب بين القواسم المشتركة من اجل خلق وثبة تدفع المجتمعات الاسلامية للنهوض والتقدم. ومع ذلك فالسعوديون موقنون بأن الله سبحانه وتعالى شرفهم بخدمة الحرمين الشريفين ولا يفتأون يؤكدون بأن خدمتهم تلك ما هي إلا واجب وعزة وشرف وركيزة ترتهن له هذه البلاد المباركة وقادتها، واعتراف بفضل الله بما حبا هذه البلاد من خيرات ونعم وفيرة. ولعل هذا ما يفسر أن السعودية لا تبخل بصرف المليارات على الحرمين والمشاعر المقدسة وضيوف الرحمن منذ عهد المؤسس والى يومنا هذا، لأن هذا الامر وفق تصور السعوديين يتعلق بركيزة من ركائز الدولة وثابت من ثوابتها اللذين لايمكن ان تحيد او تفرط فيهما. فالمسالة ليست بحثا عن مجد ودعاية او أضواء وفلاشات او انها تمنّ على الاخرين ، بل بالعكس من ذلك تماما ان ارتهنا للإنصاف، حيث لا تسمع إلا التأكيد دائما بأن هذا واجب يفتخرون ويعتزون به وإن ما يقومون به تجاه الحرمين إنما هو واجب تمليه عليهم عقيدتهم، وهو عمل يبتغون به مرضاة الله عز وجل أولا، ومع ذلك فقلوب المسلمين في كل أنحاء العالم تهفو إلى المقدسات ويعلمون علم اليقين حجم الجهود التي تبذلها السعودية في سبيل راحة المصلين والزوار. وفي هذا الإطار يأتي تدشين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لمشروع توسعة المسجد النبوي الشريف، كأكبر توسعة في تاريخه، بما يجعله يستوعب ما يقارب الثلاثة ملايين مصل، ما يوفر أماكن للصلاة في الأدوار المختلفة تقدر بأكثر من ثلاثة أضعاف المساحة الحالية. كما رأى البعض ان تدشين الملك لمشروع التوسعة جاء كأكبر رد عملي على محاولة الإساءة لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأشار البعض إلى ان هذه الخطوة تأتي ضمن منظومة اهتمام السعودية في ان يجد الحجاج والمعتمرون والزوّار الراحة والطمأنينة عند أداء مناسكهم، وأنهم سيودعون بهذا المشروع التاريخي مشكلة الزحام إلى الأبد كما قال الشيخ السديس. وكان لافتا توجيه خادم الحرمين في حفل تدشين التوسعة باختصار مدة المشروع إلى مرحلة واحدة والى سنتين بعد أن حددت سابقاً بثلاث سنوات. فالتكلفة هنا لا تمثل عائقا طالما ان الهدف هو مواصلة المسيرة الحضارية وتعزيز اداء الرسالة الاسلامية على أرض المملكة. هذه المنجزات التاريخية والمشاريع الكبرى والتوسعات التطويرية هي تأكيد لاضطلاع السعودية بمسؤوليتها الدينية، وإنها واجب وليست شعارا، فضلا عن التزامها بتكريس رسالتها الإسلامية في تعزيز الاعتدال والسلام والمحبة والتسامح والحوار.