صوته شجيّ ومعبّأ بالشجن وكانت بداياته لافتة ومبشرة بنجم واعد سيحتل له موقعاً متقدماً في خارطة الفن السعودي الذي يزخر بأسماء قوية وريادية إلا ان من استمع له وقتها راهن على استحقاقه الصفوف الأولى رغم شراسة المنافسة. هو الفنان عبدالله الجساس الذي ما إن يرد اسمه الا وتحضر اغنيته الذائعة الصيت "يا زين انا احبك" التي دوّت في كل منزل وقتها معلنة قدوم صوت أخاذ يشكل اضافة نوعية للفن السعودي . ورغم ان موهبة الجساس كبيرة وصوته دافئ وحنون كما انه رفد موهبته بالدراسة الموسيقية لاثراء معرفته كما يقول الا انه لم يستمر وتوارى عن الأنظار تاركاً حسرة وعلامات تساؤل حول هذا الغياب الذي كشفه في حوار قديم استللنا منه هذه المقتطفات. يقول الفنان عبدالله الجساس البداية كانت عادية من خلال المدارس والحفلات المدرسية والمسارح فضلاً عن كوني اعيش في بيئة فنّية فالوالد شاعر وكذلك الخالة والجدة والسواد الأعظم من الأسرة يقرضون الشعر ويتذوقونه بشكل طبيعي ب"الإضافة" الى ان والدي صوته شجيّ وكان يتغنى بالقصائد على الألحان المعروفة ك"الليحاني"على شاكلة اللعبوني كالذي ردده الراحل سلامه العبدالله: "يا علي صحت بالصوت الرفيع" وابن لعبون شاعر كبير ويبدو لي في مدارس التراث بمركز التراث للمأثورات الشعبية حين يلتحق به الطلبة لا بد وأن يعرجوا على مسيرة هذا الشاعر الفذ والليحان ويضيف: الوالد كان شغوفاً بترديد اشعاره على هذا النمط من الألحان. ويشدد الفنان عبدالله الجساس على اهمية السماع باعتبارها حاسة – كما يصفها – سيّدة الحواس التي من خلالها وعبر الاستماع الكبير والمتكرر تتربّى حواسه وتتلوّن عواطفه ويخرج المخبوء في نفسيّته بعد ان تربى عنده جميع الحواس وتنصقل ايضاً العواطف الأخرى من شعور واحاسيس وهي التي اضافت له الصوت الشجيّ الذي كان مثار اعجاب من حوله به رغم اني لم اصل وقتها الى عمر البلوغ الذي تثبت عنده الأوتار الصوتية والرجولة فالصوت الأجش لا يتغير فيما الصوت الصغير او الحاد يتشكّل وهو ما يجعل البعض يستعين احياناً بأصواتهم لأداء الكورال لأصوات نسائية لأن طبقته طبقة "السبرانو" ويشير الجساس الى انه حين كان يملك هذه الطبقة كانت تعمد المدرسة الى تكليفه بتلاوة القرآن الكريم في الإذاعة المدرسية والطابور وكذلك الإنشاد في المسرح . الجساس»يازين انا حبك» لمعت متوسط التسعينات الهجرية وبنبرة مشبّعة بالحنين يستذكر الجساس بدايات تأثره الفنية ودوره في المدرسة حين كان مقرئاً للقرآن في الصباح وفي الفسحة الطويلة يردد الحان مطربي ذلك الجيل ممن تأثر بهم كعبدالله محمد وطارق عبدالحكيم وطلال مداح ويقول: كنا نغير كلمات الأغاني ونحولها الى مونولوج يعالج قضايا اجتماعية مثل "الخنافس أي الشعر الطويل او التدخين او غيرها" ونؤدي المونولوج بنفس اللحن مع تغيير الكلمات وتطويعها وكان هذا بداية شهرتي على المستوى الاجتماعي البسيط. ويمضي عبدالله الجساس واصفاً تلك المرحلة الجميلة واعجاب مدرّسيه به والذي كان تترجمه بعض المواقف كأن يذهب الى احد الفصول لجلب ممحاة طباشير "مسّاحة" او خلافه فما يكون من ذلك المدرس الآخر الا ان يطلب منه الانشاد لزملائه بأي انشودة او اغنية ويضيف: كان هذا الإعجاب والاستحسان محرضاً لي حيث كنت اقوم بتلحين بعض الأناشيد في المنهج في نفس اللحظة دون ان اشعر انني اقوم بالتلحين وهو ما يعكس نمو الحاسة الذوقية والسمعية لدي منذ زمن مبكر. وفي سرد لتعلقه بالآلات الموسيقية خصوصاً آلة العود يسرد الجساس هذا الولع مشيراً الى انه مارس ما مارسه الفنانون قبله من محاولة الحصول على آلة العود ببراءة طفولية كأن يسرق عود احد اقاربه من فوق الدولاب ويضيف: حبي للموسيقى وآلاتها دفعني ان اتتبع طرق صناعتها حتى على مستوى الأعواد الصغيرة التي كان يلهو بها الأطفال وكنت احاول ان اقتني تلك الآلة الرائعة لكن الظروف المادية وقتها لم تسمح الا ان حبي وعشقي للعود دفعني الى صناعته من صناديق الشاهي وعلب الزيت كان هذا في فترة ينظر للفن فيها على انه معيب فعندما تحمل عوداً من السوق وتتجه الى منزلك ينظر اليك على انك قمت بعمل غير اخلاقي. عبدالله الجساس في حفلات الرياض عام»1406ه» ويمضي الفنان عبدالله في سرد تجربته واقتحامه الساحة الفنية قائلاً:عندما شعرت اني املك ما اقدمه اصررت على ان اقدم نفسي فنياً بكل ثقة فلجأت الى الفرقة الموسيقية التي بهرتني وكنت اشاهد العازفين وبعض الآلات التي لم يسبق لي ان شاهدتها عن كثب حيث شاهدت احد الفرق في الرياض وهي تسجل لأحد الفنانات وشاهدت آلة اناي والكمان وغيرها . هذا القرب من الفرق الموسيقية جعلني اتكفل بدفع تكاليف الفرقة بجميع موسيقييها ونقل تكلفة التسجيل ايضاً ومن ضمن مهندسي الصوت كان هناك مهندس صوت مشهور ومتميز يدعى حسين بن علي معروف في الساحة الفنية وله بصمات ومازالت كان ماسك صوت الرياض فقمت بنقله هو والفرقة الى مكان حرصت ان يكون مهيأ للتسجيل بعيداً عن ضجيج السايرات والإزعاج وبدأنا التسجيل الثالثة فجراً واضعين في الحسبان التوقف وقت اذان وصلاة الفجر طلال مداح ومحمد عبده احتكرا الصف الأول وأحبطا من جاء بعدهما وسجلت اول شريط لي دون ادنى وعي ثقافي بالتوزيع الموسيقي او خلافه واعطيته الأستوديو كما يقال " هديّة في زبديّة" طبع منه آلاف الأشرطة ونفدت بشكل جميل وكان في تلك الفترة الأمير بدر بن عبدالمحسن-بداية التسعينيات الهجرية- الذي انشأ جمعية فنون تحت مسمى "الفنون" ولم يكن اسمها الثقافة والفنون والذي لم يضف الا لاحقاً وكان مقرها في المربع في الرياض قرب جوازات الرياض . وعن الشريط الذي تم تنفيذه يقول الجساس: جميع اغانيه كانت من ألحاني اما الكلمات فكانت من جهود أحد الأقارب ولا انكر ان بعضها فيه ركاكة لكنها عثرات البدايات كما يقال لكن المهم في الموضوع ان الشريط احدث ردود فعل جميلة لدى الكثير ومن ضمنهم جمعية الفنون التي كان يشرف عليها سمو الأمير بدر ويحضر اليها من بعد العصر الى المغرب. عام( 1394م) استدلت على هاتفي لا أدري كيف وكانت تلك الفترة نادراً من يملك خطاً هاتفياً( قالها ضاحكاً) المهم قالوا" نريدك" ولم اكن اعرف عنوانها فأعطوني العنوان وذهبت اليهم وقالوا ان هناك حفلاً سيغني فيه عدد من الفنانين ووقع الاختيار عليك ان تكون ضمن المشاركين وقالوا لي ايضاً: ان الامير بدر يريد رؤيتك انت وفنان آخر لسماع اصواتكما ولم اكن اعرف ذلك الفنان وقتها واتضح لاحقاً انه الفنان حمدي سعد ولا شك انها كانت فرصة عظيمة لي في بداياتي. واتذكر اني جلست خلف مكتب الأمير بمواجهته وكنت املك جرأة في الحديث وطلب مني ان اغني فغنيت بعد ان اجريت تدريبات خفيفة على صوتي ومسكت رتم وجلست اوقّع ايقاعاته كي تعطيني المسافة اللحنية وعلى مكتب الأمير واتذكر تبسّم الأمير في وجهي كأنها الآن وكانت بدايات الجمعية وكان موجوداً الأستاذ طارق عبدالحكيم والأستاذ عبدالله الجارالله مدير التراث والفنون ومجموعة تغيب عن ذهني الآن كل هذا الجمع اتضح لي من خلال الهمس والإيماءات بينهم اني اجتزت الامتحان وتأكدت مشاركتي في الحفل وبالفعل شاركت في الحفل بنادي الشباب عندما كان في شارع العصارات وكانت هناك ردود فعل جميلة وحسب ما نقل لي من تابع ان الصحف وقتها ولمدة تسعة عشر يوماً وهي تتحدث عن الموهبة القادمة. يتبع في العدد القادم..