ودع عالمنا قبل أيام محمود صبري آخر ما تبقى من رواد الفن التشكيلي العراقي، وأكثرهم شبهاً بشخصية محمود البريكان الثقافية، فهو مقل في رسومه، مع اختلاف وتمايز عمل من خلالهما على تكوين ما نسميه كاريزما الفنان الشخصية، وهي في جانب منها، تحقق ارستقراطية ثقافية يدور الفنان في فلكها إلى آخر عمره. إنها نوع من الجاذبية تشلّ المعجبين والفنان نفسه، فيبقى طموحه بكمال عمله يوازي انتظار المعجبين وإيمانهم بهذه الحقيقية. ولكن المفارقة في شخصية محمود صبري الفنية، أنه كان شيوعيا وبقي مؤمنا بقضية لم يفتّ عَضْدَها دراسته الفن في موسكو، وإقامته الطويلة في براغ، ومصادفته ثورتين شهدتهما هذه المدينة المثقفة، ربيع براغ الذي قمعته الدبات السوفيتية 1968، والثورة المخملية 1989 التي قادها هافل الكاتب المسرحي والمثقف الذي غدا رئيسا. درس محمود صبري في الأربعينات علم الاجتماع بلندن، وهو المنحدر من عائلة متوسطة الحال عاشت في قلب بغداد القديمة، محلة المهدية التي تنقّل بين مدارسها ومدارس الفضل خلال طفولته وصباه. كانت تلك الأماكن خزين فنه ومراجل اعتقاده فقارب شخصياتها الشعبية في الكثير من لوحاته. ومع انه عاش حياة زاهدة الى آخر عمره، غير ان صلته بالنماذج التي رسمها، بقيت وجدانية، فعالمه لا يختلف كثيرا عن عالم معظم الفنانين العراقيين من جيله، حيث شكّلت الثقافة الغربية أسلوب حياتهم اليومية، فكانت الموسيقى الكلاسيكية والقراءة بالانكليزية ومتابعة موجات الحداثة سلوكا ونمط حياة وتصورات، من بين أهم ما تركوه من أثر في ماضي العراق الخمسيني. غير ان اختلاف محمود صبري عن جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي والكثير من التشكيلين العراقيين بمن فيهم شاكر حسن آل سعيد، انه كان قارئا للفكر والفلسفة الغربية ومطلعا على النظريات العلمية، اضافة الى شغفه بالفيزياء، ومتابعة نظريات وتاريخ الفن. هو بهذا المعنى سعى كي يكون مثقفا موسوعيا. يكتب محمود صبري في مجلة " الثقافة الجديدة" العام 1953 موضوعا عنوانه " الأزمة الراهنة في الفن المعاصر" وسنجد فيه متابعة غير مسبوقة في النصوص التي كتبها العراقيون لتواريخ الفن في تلك الفترة، مع استقراءات تبدو للمعاين وكأنها محاولة للتوفيق بين نخبوية الفن وجماهيريته. تظهر في هذا المقال لمسات الفكر الماركسي وهي تهبط وترتفع بالمادة في صراع خفي وظاهر، حيث يحاول التوفيق بين بساطة وتعقيد الفن، ودروبه الوعرة التي تصل أو لا تصل الجماهير. ولكن تصديره مقاله بفقرة كتبها دييغو رفييرا الفنان المكسيكي الشيوعي، تلخّص حيرة محمود صبري ازاء ذلك التناقض الذي سكنه حول مقولة لمن يقدّم الفنان فنه، ومن أجل منْ يكرّس حياته؟ فريفييرا يرى ان الأساليب التركيبية الشكلية ونظريات ومفاهيم الفن تصبح موضوعا للفنان " وحتى لو تخلّص منها فإنه هو نفسه يصبح موضوعا لعمله الفني، وبذلك فانه لا يصبح سوى مصوّر لحالته النفسية الذاتية، وبمحاولته تحرير نفسه، يقع فريسة لأسوأ أنواع العبودية" رفض محمود صبري في موضوعه النظري هذا، ما أسماه "تأصيل الروح المحافظة لدى الجماهير" فهو يؤمن بأن أزمة الفن العالمي المعاصر تكمن في ابتعاده عن الجماهير، فالصورة حسب تعبيره، " ليست كوكبا في السماء يتطلب منظارا خاصا لرؤيته، انها نتاج اجتماعي " على هذا لا يرى في الجماهير قصوراً في فهم الموجات الحديثة، قدر ما يرى في الفن الحديث نفسه، في قصوره الذاتي كبذرة نمت ثم أصبحت عقبة تحول دون تقبّله اجتماعيا. انها نوع من الأزمة التي تكمن في طبيعة النظام الاجتماعي والاقتصادي نفسه وتعبّر عنه، كما يخرج باستنتاج في هذا المقال. كان محمود صبري معجبا بريفييرا الذي جسّد النزعة الأسطورية للفكر الشعبي عبر جداريات تمجّد العمل والثورة، تلك الضخامة في تكويناته وشخصياته، تكمن خلفها انفلاتات الواقع وتموضعه في مخيلة حسية مفعمة بفكرة الامتلاء والعنف والعرامة. وفي رسوماته الأولى، كان محمود صبري، شديد الالتزام بأمرين : كيف تقدم مواضيعه واقع الناس ونضالهم ضد الفقر والاستبداد، وما يمكن ان يضفيه عليها من أساليب حديثة ومبتكرة. اتبع تعبيرية تمزج بين هندسة الخطوط الحادة المتقاطعة وغنى السرد في مشهدية يحضر فيها الزمان والمكان مفعمين بالتلميحات والإشارات. بيد انه نبذ هذا الجانب قي عمله، واستبدله بنظرية أسماها " واقعية الكم " واطلقها في كتاب أصدره في السبعينات عنوانه " الفن والإنسان". في بيانه عن "واقعية الكم" يربط محمود صبري بين الفن والفيزياء في اكتشافاتها الجديدة لوظائف الذرة وطبيعتها. وسنجد أفضل فهم لهذه النظرية، في المقابلة التي أجراها معه القصاص محمود البياتي في مجلة " الكرمل" الفلسطينية، حيث أسهب الفنان في شرح نظريته، وحاول تقريبها من فهم القارىء. يرى محمود صبري ان "واقعية الكم" تقدم فهماً مختلفا عن منحيين سادا رؤية الفنان العالمي : الأول أسلوب محاكاة الظواهر الطبيعية الذي انتهى بنهاية القرن التاسع عشر، فكانت وظيفة الفن مطلع القرن العشرين تنطوي على مصادر حداثة تستمد من علم النفس زوايا نظرها، كما تحاول في منحى آخر خلق اشكال جديدة وقيم جمالية مجردة ومطلقة. ويعود في هذا الصدد إلى تنظيرات كاندنيسكي التي يرى فيها ان اكتشاف الطبيعة المتشظية للذرة كان بمثابة انقلاب بدّل مفاهيم جمالية كثيرة وطور فكرة البحث الجمالي . "واقعية الكم" كما يقول محمود صبري، تقدم إطارا مختلفا لتنظيرات القرن العشرين وما سبقه، ولكنها لا تتخلى عن الفكرة الأساسية في محاكاة الطبيعة، بيد ان تلك المحاكاة تتخذ طبيعة مختلفة، فهي لا تنظر إلى الطبيعة باعتبارها ساكنة، بل هي متغيرة ومتطورة على الدوام، وهي ترتبط بهذه العملية الأزلية لتفاعل الإنسان معها، وعلى هذا الأساس تكشف دائما عن جوانب وعلاقات جديدة. فن المحاكاة في واقعية الكم، هو الانتقال من مستوى المظهر إلى الجوهر، أي مستوى اعتمال الطاقة. في هذه العملية سيشترك الفن والعلم والتكنولوجيا لتكييف الكرة الأرضية بكاملها وتحويلها إلى بيئة متناسقة وجميلة. النمط الانتاجي الجديد في هكذا تحوّل يقوم على علاقة علمية ديالكتيكية باعتبار الطبيعة نظام عمليات، والعلاقات الاجتماعية وفق هذا النظام، ستكون اشتراكية بالضرورة. حاول محمود صبري البرهنة على نظريته في عدد من اللوحات، ولكن رسومه لم تنجح في اقناع المتلقي بما كان يكمن في صلب تصوراته الفكرية، أي عنصر الاختلاف. لعل تلك الأعمال برهنت على صحة قول غوته :النظرية رمادية وشجرة الحياة دائما خضراء.