يُقابَل ركام المسلسلات والتمثيليات التلفزيونية في رمضان بنوع من الاستهجان والنفور ، وتربط بالعبث واللهو وإهدار الوقت بلا طائل ، وعلى الرغم من هذه النظرة المنتقصة ضد الدراما داخل الكثير من الأوساط إلا أن ركام تلك التمثيليات يزداد عاما تلو الآخر وهناك إقبال جماهيري واسع عليها ، ولعل احتشاد مفاصلها بالدعايات الضخمة هو مؤشر واضح على ارتفاع نسبة المشاهدين . وبعيدا عن نظرة الانتقاص التي يُنظر من خلالها لتلك التمثيليات لاسيما من قبل النخب (بجميع تياراتها) فإن هذه الجماهيرية والشعبية هي مؤشر على كونها تلبي حاجة نفسية عميقة داخل المتابعين كون الدراما من أقدم الفنون التي رافقت مطالع وعي الإنسان ، وأيضا تتجذر عميقاً في اللاوعي البشري عندما كانت ذات طابع طقوسي روحاني تبرز عبر عدد من الممارسات والشعائر التي يتم فيها التقرب للقوى المجهولة والخفية من خلال المحاكاة لمظاهر وقوى الطبيعة. وظلت الدراما مرافقة لتطور الإنسان الفكري ، وأسهمت في دور كبير في دعم تفاصيل صراعه الوجودي مع محيطه ، وهي الحقيقة التي عبر عنها منذ آلاف السنين الفيلسوف اليوناني أرسطو خلال (نظرية التطهير) وأهمية الدراما للتوازن النفسي والسلوكي ، وصولا إلى العصر الحديث الذي أصبحت فيه الدراما فرعا من فروع علم النفس الحديث (السيكودراما) . بل يذهب البعض إلى دور الدراما المهم في ضبط عملية الحراك الاجتماعي لاسيما إن كانت تتضمن قيما فنية راقية وقادرة على صياغة وعي مستقبلي وتنويري جديد . وفي البيئة الصحراوية المتقشفة ذات الثقافة الشفوية كانت القصيدة أو السبحونة أو السالفة هي من يقوم بمقام الدراما ، حيث السبحونة هي الشكل الدرامي البسيط لسكان الصحراء وهي حافظة لتاريخهم وأشعارهم ومجموع قيمهم ، تظهر في السبحونة على شكل شخوص وتسلسل سردي ونهاية سعيدة وأحيانا تراجيدية ، وأقدار عادلة تكافئ الأخيار وتقتص من الأشرار . فالدراما تصنع نوعا من التماهي بين المشاهد والشخصيات ، من خلال تسلسل الأحداث وصراع الشخصيات واحتدام الحبكة تتبدى له شخوص يعكسون آماله ومخاوفه المستترة ، وقلقه من المستقبل فالذات الفردية تبحث عن هويتها من خلال الدراما . وعلى مستوى الجماعة يندغم الفرد مع المجموع ويصبح لهما تاريخ موحد . وصناعة الدراما الهائلة في الولاياتالمتحدة هي جزء مهم من هيمنة إمبراطوريتها على أنحاء العالم ، وقد تفطنت الاستهلاكية الماكرة لهذا الدور الحيوي والجماهيري فباتت تدس رسالتها خلسة في ذلك الفن لنشر وتكريس قيم الاستهلاك ورصفها بالدعايات . ومما سبق لا نستطيع أن نحاكم الدراما أو نلغيها بجرة قلم أو معاملتها بفوقية واستهجان ، ففي عصر ثقافة الصورة تحل التمثيلية مكان السالفة أو السبحونة لاسيما لدى الطبقة العامة والبسطاء ، أيضا من الصعب أن نجعلها تحتشد بمضمون نخبوي معقد فطبيعة جمهورها يحتم عليها الطرح البسيط غير المركب أو الفلسفي . لتبقى الدراما في النهاية ذات دور حيوي ومهم في تاريخ الشعوب .