كتبتُ مقالين سابقين لهذا المقال حول تحرير الإسلام وهو ما أعني به التحرير الفكري من تبعات تاريخية وحديثة، وفي هذا المقال اطرح الفكرة الثالثة والأخيرة حول منظور فكري لتحرير الإسلام في هذا الزمان. تدور فرضية الثلاث مقالات جميعا حول تحرير الإسلام : أولها أن الإسلام يعاني اليوم من أزمة التواصل مع بقية العالم وخاصة المختلف من الأديان والشعوب بينما كانت هذه السمة هي ما ميز الإسلام في زمنه الأول، في الفرضية الثانية طرحت فكرة الفهم أو الإدراك المضطرب للإسلام فكريا بين الفرد والجماعة والسياسة وكذلك توقف النضج الإسلامي الفكري عند مرحلة زمنية معينة في تاريخ المسلمين مما أدى إلى أزمة وصعوبة التعايش بين الحديث والماضي. ثالثها في هذه المقالة ينتظم مثلث تحرير الإسلام الذي رغبت أن ارسم له ثلاث زوايا مهمة يجب النظر إليها وتمعنها: زاوية التواصل، وزاوية الفهم فكريا، وزاوية الأولويات التي يمكن إثارتها من خلال سؤال مهم وغير مطروق كثيرا هذا السؤال يقول: ما هي أولويات الإسلام في القرن الحادي والعشرين ومن يحددها وكيف وهل يجب أن يكون للإسلام أولويات..؟ فإذا كنا نعاني من أزمة تواصل ومن توقف نضج فكري فكيف سيكون لنا منطقيا أن نستطيع أن نحدد أولوياتنا ، أولويات الإسلام الحقيقية تناثرت اليوم بسبب تحولها من أولويات تخص الإسلام كعقيدة إلى أولويات تخص إما أفرادا بعينهم أو جماعات أو كيانات فكرية وسياسية. عملية تحرير الإسلام من أزمة التداخل وكثرة الأولويات يجب أن تكون أكبر مشروع قادم للقضاء على كل أشكال التقويض والانهزام التي يمر بها المسلمون اليوم، لقد أصبح المتشدد من المسلمين في مساحة تسمح له أن يقدم أولوياته على غيره عبر التاريخ الإسلامي لم تكن الصورة واضحة بين الأولويات الخاصة بالأفراد والجماعات ، والأولويات الخاصة بالإسلام نفسه والسبب في ذلك أن كل ما خلفه لنا تاريخنا ليس تاريخا اجتماعيا بل تاريخ سياسي فكل التاريخ الذي وصل إلينا هو تاريخ بناء أمة بالمعنى السياسي (حروب وصراعات) وليس تاريخ بناء مجتمع وتنميته. من الممكن أيضا أن يثار سؤال يقول ما الفرق بين أولويات الإسلام وأولويات المسلمين وأيهما أكثر سيطرة..؟ من المنطق أن نقول هناك فرق كبير ومهم بين أن يتبع المسلمون اولوياتهم ، وبين أن يتبعوا أولويات الإسلام فهل الإسلام تابع للمسلمين أم هم يجب أن يكونوا تابعين له ..؟ من يقول بقدرة الإسلام على التكيف مع كل زمان ومكان يجب أن يكون مؤمنا بأن الإسلام تابع له كفرد وليس العكس ومن يقول بأنه تابع للإسلام كفرد فهو نوع من الأفراد أو الجماعات التي توقفت عن التفكير عند أول عشر سنوات من تاريخ الإسلام. المسلمون اليوم يعيشون مرحلة ضبابية في تحديد تلك الأولويات لذلك يخيم عليهم التخلف بشكل مريع، فمنهم من يعتقد أن الجهاد والحرب من أهم أولويات الإسلام ومنهم من يرى أن نشر الإسلام من الأولويات ومنهم من يرى أن الدعوة من الأولويات ومنهم من يرى أن حفظ القرآن من الأولويات ومنهم من يرى أن إعفاء اللحى من الأولويات..الخ من الأولويات التي يرى كل مسلم وكل مجتمع أهميتها ولكن يبقى سؤال مهم ومطلوب حول تحديد هذه الأولويات في زمن يتعرض فيه الإسلام إلى اكبر أزمة تهدد بنيانه الفكري والفلسفي وهذا الكلام ليس للتخويف ولكنه حقيقة لا نريد أن نراها بجدية ، وبالمناسبة تكاثر الأولويات جعل من الإسلام مثالية يستحيل في بعض الأحيان تصور وجودها على الواقع. من يحدد هذه الأولويات وكيف..؟ هذه أزمة جديدة لأن إمام المسجد القريب من بيتي يفرض علينا أولوياته في كل جمعة ولأن لكل واحد منا أولوياته الخاصة فنحن في أزمة وازدواجية دائمة والمشكلة أننا نطرح رؤيتنا حول المهم والاهم في الإسلام في مسار تاريخ الإسلام دون اعتبار لكيفية وضعها في هذا المسار التاريخي بمعنى آخر كل مسلم اليوم يعتقد بأنه يملك الحقيقة في تحديد أولويات الإسلام. النبي محمد عليه السلام عندما كان بحاجة إلى القوة وضع من أولوياته أن يكسب احد العُمرين للإسلام فدعا ربه بأن يعز الإسلام بأحد العمرين ، وكانت أولويات الإسلام متجددة بحسب الظروف وعندما توفي الرسول عليه السلام بدأت أزمة الأولويات تظهر وتشكل خطرا على المجتمع الإسلامي وأصبح الإسلام وكأنه مشروع سياسي بحت بينما هو ليس كذلك. عملية تحرير الإسلام من أزمة التداخل وكثرة الأولويات يجب أن تكون أكبر مشروع قادم للقضاء على كل أشكال التقويض والانهزام التي يمر بها المسلمون اليوم، لقد أصبح المتشدد من المسلمين في مساحة تسمح له أن يقدم أولوياته على غيره من المسلمين وعلى السياسيين ، ويهدد بالقتل والتدمير إذا لم تكن فكرته هي الأبرز والاهم وهذا ما يعكس الواقع الذي نعيشه. إنني إذا ما جلست مستمعاً إلى متطرف عبر الانترنت أو عبر التلفزيون أو من على منبر ديني أو فكري باختلاف لونه أو مساره أو مذهبه، أشعر انه يحمل صكا مختوما لملكيته الخاصة للإسلام وتوجهاته فكل من نستمع إليهم حتى أولئك الذين يقدمون لنا محاضرة أو ندوة نشعر وكأنهم يشككون في قدراتنا على اختيار أولوياتنا من الإسلام ويرغبون في فرض ما يشعرون بأنه الأهم علينا جميعا حتى نتبعه. نحن بحاجة إلى أن نحرر أنفسنا من أولئك حتى نتمكن من تحرير الإسلام بطريقة ماهرة ، فكل ما حصل لنا خلال العقود الماضية إنما يعكس لنا اضطرابا مهما في عمليات اختيار الأولويات وهي شعارات تم طرحها لنا ، فشعار الجهاد كان أولوية لمتطرفين فرضوه على المجتمعات الإسلامية وهكذا كل الشعارات ولذلك أنتج لنا التاريخ الإسلامي أفكارا مؤلمة ومتكررة تأخذنا من أزمة وتدخلنا في الأخرى. بكل وضوح الصراع بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم لا تدفعه العقيدة مهما حاولنا أن نقول ذلك: ما يجري اليوم هو محاولة من المسلمين لإيجاد موقع لهم بين دول العالم لشعورهم أن العالم تجاوزهم فلذلك تتركز محاولاتهم في كبح جماح هذا العالم المتقدم واعتباره خارجا عن القيم والأخلاق لذلك هم حاربوه بينما ضيعوا فرصتهم لتطوير ما هو بين أيديهم. إن التدين الذي يشهده العالم الإسلامي اليوم هو تعبير ورسالة إلى العالم المتحضر بأن لدينا نحن المسلمين ما نتميز به عن غيرنا ألا وهو طريقة التدين وشكلها لذلك تجد الكثير من المسلمين في البلدان الغربية يفرضون نوعا من التشكل في حياتهم ومظاهرهم الخارجية من اجل إيصال هذه الرسالة، ويطلب من كل مسلم يذهب إلى الغرب أن يمارس عقيدته شكلاً ومضموناً دون خوف في الأماكن العامة وغيرها. هذه الأمثلة البسيطة تعكس شكلاً من ضياعنا في فهم الأولويات وتطرح سؤالا مهما هو مَن يجب عليه أن يحدد الأولويات في الإسلام السياسيون أو العلماء أو الأفراد..؟ وإذا كان كل واحد من هؤلاء لديه أولويات مهمة ويرغب في فرضها على الآخرين فهنا يجب أن نفسر تلك الأزمة القائمة في كثير من الدول الإسلامية بينها وبين شعوبها حول فهم الإسلام. علينا أن نصل إلى المرحلة التي يستطيع فيها الفرد فهم حدوده في تحديد أولويات الإسلام في إطاره الشخصي وكذلك العلماء والمفكرون وأخيرا السياسيون، فالمشكلة الكبرى تمثلت بكل أسف في أن المسلمين أصبحوا باحثين عن أولويات يقودها فرد آخر صنعوا أتباعا يوجهونهم كيف يشاءون ، ولكن العامل المشترك في كل شيء أن الرغبة في السيطرة السياسية كانت طاغية على كل المشروعات الإسلامية فلذلك بقي مصطلح الأمة مشتعلا في عمق التاريخ الإسلامي وتوارثه الأفراد ونما في عقولهم. إن السؤالين الأخيرين اللذين يجب أن يبقيا مفتوحين إلى أن تكتمل الإجابة عنهما يقولان: هل أولويات الإسلام سياسية أو عقدية أو تطويرية اجتماعية أو حضارية فلسفية أم ..ماذا..؟ السؤل الثاني: من له الأحقية المطلقة في تحديد أولويات المسلمين اليوم الأفراد أم العلماء أم السياسيون ..؟