وانكسارٌ بلا شهود.. هناك وجوهٌ تضيء العالم بابتسامة، لكنها حين تعود إلى عزلتها تنطفئ.. وجوهٌ أتقنت فنّ إخفاء الوجع، وتعلّمت كيف تُربّي داخلها قدرة مذهلة على التحمّل، حتى غدا الحزن رفيقاً صامتاً لا يفارقها. نحن الذين نبتسم -لا لأننا بخير، بل لأننا نخشى أن ننهار أمام الآخرين- نحن لا نضحك لأننا بخير، بل لأننا نحاول أن نكون كذلك. لا أحد يتقصّد كسرنا. لكنها اللامبالاة!، الغياب المفاجئ، التغير الذي لا نجد له مبرراً: نظرة باردة، رسالة متأخرة، صمتٌ حلّ مكان الكلام تفاصيل صغيرة تهدم في الداخل أكثر مما تفعل الضربات الكبرى.. كلها تترك شرخاً صغيراً لا يُرى، لكنه يتسع كل يوم.. كل ذلك يؤلم لأنه أتى من حيثُ ظننا الأمان. لماذا نصمت؟ لأن الحديث عن الألم أشبه بفتح نافذة في ليلة عاصفة.. لا أحد يضمن ما الذي سيدخل. ولأن هناك قلوباً تخاف أن تُرهق غيرها، وصدوراً اعتادت أن تُخفي الجرح بدافع الشهامة أو الخجل أو الحياء. لذا تبتسم, وماذا تفعل الابتسامة؟ الابتسامة ليست كذباً.. إنها محاولة للنجاة. فحين نتألم ولا نملك قدرة التغيير، تظل الابتسامة خياراً ناعماً نحمي به ما تبقى من صلابتنا. فكيف نواصل السير؟ الجراح لا تُشفى دفعة واحدة. بل يحدث الالتئام على مراحلأولها الصمت. ثم: الفهم. ثم: القبول. وآخرها إعادة التشكّل من جديد، بنسخةٍ أقوى، وإن لم تخلُ من الندبة. نحنُ -أبناء اللحظات الثقيلة - نعرف جيداً كيف نبتسم ونحن نرتجف من الداخل. نعرف كيف نخبئ الخيبة في صوتٍ مطمئن، وكيف نُجمّل الحزن لئلّا يَفزع مَن نحبّ، فالعاطفة المكسورة لا تجد من يلمّ شظاياها. الناس تحب أن ترى القوة لا الضعف، الانتصار لا الانكسار، الجمال لا الخراب. ولهذا، يتعلم المتألم أن يبتسم. لماذا نبتسم إذًا؟ نبتسم ليس لأننا بخير، بل لأننا نحاول أن نكون كذلك. لأن الابتسامة هي آخر ما يبقى لنا حين تذهب كل الأشياء التي اعتقدنا أنها ستبقى. كل عاطفة مكسورة تحمل في داخلها درساً لم يُكتب بعد. وجرحاً يبحث عن معنى. وصوتاً ينتظر أن نسمح له بالكلام. لكن حتى ذلك الحين.. سنبتسم. ليس لنخدع الناس، بل لنحمي قلوبنا من الانهيار، ولندرك أن الانكسار لم يكن عقوبة، بل بوابة لنسخة أنضج منا. في النهاية، نحن لا نحتاج أن نُعلن وجعنا على العلن كي نُشفى، لكننا نحتاج أن نعترف به لأنفسنا كي لا يهزمنا في الخفاء. وعلينا ان نكون متأكدين إن فعل مقاومة الابتسامة ليست كذباً، إنها نضال. هي الثبات وسط التصدّع، لا أحد يعلم كم من الذين نراهم اليوم مبتسمين، يعودون ليلاً إلى غرفهم مثقلين بالخيبة. ولا أحد يعلم كم من الانكسارات خاضها إنسانٌ بصمت.. لكننا نعرف -نحن الذين نعيش العاطفة المكسورة- أن الألم لا يُلغى، بل يُعاد تشكيله. وأن بعض الابتسامات، رغم هدوئها، كانت معركةً كاملة انتصرنا فيها دون أن يلاحظنا أحد.