للحداء تاريخ طويل، وممتد عبر العصور. وقد ذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه «العمدة» ملمح من ذلك. ويعد الحداء من التراث الشعبي الذي مارسه العرب حين سَوقْ الإبل، وكذا بعض ممارسات الأعمال الحرفية، واليدوية التي تحتاج إلى المزيد من الإثارة في صفوف جموع من الناس، ليتجه بها نحو إنجاز سريع، وبهمم عالية، وهو يشمل نمط أدائي مختلف ذا إيقاع معين، يستهوي السامع، ويثير فيه الحماس، ويؤجج شعور يتصاعد حتى الذروة. وفي هذا السياق؛ فإن الحداء يتجاوز الحالة الاحتفالية نحو بث الحماس، بطريقة فاعلة، لحوافز للتسلية، ولقطع مسافة الطريق عند إطالة السفر أو تجاوز عقبات الأشغال التي تمارس بشكل يومي، وتحتاج لجهد عضلي، بهمة مستمرة لا تفتر، على مبدأ: (أربعة شالوا الجمل والجمل ما شالهم)، ولاشك أن الحداء فيه نوع من انتظام الصوت حد الانسجام من الجميع، ولعل الفرصة مواتية من خلال هذا الطرح للتعرف على إرثنا الحضاري، وقيمته الثقافية، ما يعني أن الحداء أحد الأشكال الفنية التي لها قوانينها ولها قيمتها الاجتماعية. إن الحداء يمارس في كل الأوساط الاجتماعية في الجزيرة العربية، كطريقة صوتية، ويؤدى وفق أبيات شعرية معينة، وبصوت إنشادي جاذب، حسب سياق الحدث ومقام الحال. ويختلف النص الشعري من بيئة لأخرى، وبالتالي يحدث نوع من العلاقات الدمجية في الاتجاه الوجداني، والشعوري، وهذا التوظيف يتجاوز إلى غايات متعددة، قد يطغى عليها أحياناً حالات من التبتل والابتهال إلى الله، كما هذا النوع الذي يمارس في منطقة الباحة يالله اليوم ياربي يامعينا لطلابه يالذي تنبت الحب يابسا يوم نذرا به يالله اقسم لنا خيرة وأنزل الغيث همالي تنبت الأرض والديرة وأصلح الحال والمالي ومن خلال هذه الأبيات الشعرية التي تردد في مناسبة نفح البذور نجد أننا أمام معطى ثقافي يماثله الكثير من النصوص الثقافية في كل أرجاء الوطن الذي يكتنز بالعديد من النصوص الشعرية التي تمارس في ما يشابهه من توجه، أو تمارس حسب بعدها الثقافي، وحين تخرج تلك النصوص الثقافية وبطريقة إنشادية نَجِد أننا أمام اتصال ثقافي حضاري منقطع النظير يستهوي الجموع، وبالتالي من الأهمية حضوره ضمن ملتقياتنا الثقافية التي تقام على مسرح الوطن، وضمن الفعاليات المستمرة طوال العام، الأمر الذي يجعلنا أمام إمكانيات كاملة من الإبحار والتنوع والاتصال المختلف والمتعدد الذي يربطنا بإرثنا الحضاري والثقافي، وهذا يضعنا في دائرة استعادة قيمنا الحضارية والثقافية والتاريخية، وهو ما سيعزز من هويتنا الوطنية، وبالتالي نتموضع كمجتمع عريق في دائرة العادات والتقاليد الحميدة، التي نلهم بها الأجيال القادمة، وتصل إلى الآخر المختلف، من خلال حضور فعاليات المواسم السياحية وساحات المناسبات الوطنية وخشبات المسرح، ما يجعلنا نحُد من تحولات المد العولمي، ونحافظ على أبعاد ثقافتنا، لأن الحداء والأهازيج والرجز تضع المتلقي في دائرة الشعور بجمال الصوت الشجي المنتظم في تراتيب مموسقة في المد والخفض والإمالة والإطالة، ولهذا نتمنى من الموهوبين بالأصوات الجميلة والمهتمين بهذا اللون الفني من زيادة الإنشاد بهذه الألوان وبعثها إلى دائرة الضوء، وأن ينظم ركبها مع الأستاذ ظفر بن راشد النتيفات الذي قدم الكثير في هذا الاتجاه بعمل متنوع يستحق الثناء والتقدير، وأن نهتم بتوثيق ذلك، والعمل على نشره، وخصوصا جمعيات الثقافة والفنون في جميع مناطق المملكة، مع الاتساع نحو بعض الألوان كل حسب ما هو متعارف عليه في المناطق، لاسيما أن راهن المرحلة تكتسي بأبعاد ثقافية متعددة مع استدعاء لافت للماضي الذي يزدان حاضرنا بحُلي جماله.. والى لقاء.