في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. في قلب رياض الخبراء، تقع قرية النفيّد على أرضٍ لا تكتفي باحتواء الطين، بل تحتفظ به كوثيقة حيّة، فالمباني هنا شُيِّدت للحماية من الشمس والمطر، وفوق هذا كُتبت لتروي، فكل جدار يحمل لغة قديمة، وكل ممرّ يُفصح عن ذاكرة تسكن المادة. الطين في النفيّد تعدّى أن يكون عنصرًا إنشائيًا، إلى امتدادٍ شعوري يُعيد الإنسان إلى فطرته الأولى. تلك اللحظة التي كانت فيها البيوت امتدادًا للأجساد، لا مفصولةً عنها، والعمارة جزءًا من العائلة، لا مشروعًا منفصلًا عنها. وهذه العلاقة بين الإنسان والطين، بين الجدار والوجدان، تصنع حالة من السكون العميق، حيث يتوقف الزمان لوهلة، ويسمح لك بأن تشعر بأنك في بيتك، حتى لو لم تسكنه يومًا. «عناية بالتراث» حين أُطلقت المرحلة الأولى من مشروع إعادة تأهيل قرية النفيّد، كانت الفكرة أشبه بنداء، استجاب له التاريخ فاستيقظت مبادرة من الشيخ محمد الخضير، وبدعم هيئة التراث، لإعادة تهيئتها وإحياء المكان بما يحمله من مضمون وجداني وثقافي. 25 مبنًى تراثيًّا تُحيط بها المساحة الواسعة للقرية، منها سبعة مبانٍ جرى ترميمها كمرحلة أولى، لكن ما جرى داخل النفيّد كان أبعد من أرقام. فقد عادت الحياة إلى الأزقة، ونُفض الغبار عن واجهات البيوت، لتكشف عن حضورٍ ما زال محتفظًا بعطر الأيدي التي بنتها أول مرة. الدعم الفني والاستشاري المقدم من الهيئة لم يقتصر على الجوانب التقنية، بل انسحب إلى مساحات الانتماء، وشارك الأهالي في رسم ملامح هذا البعث الجديد، وعادت الحجارة سيرتها الأولى متمثلة عنوان وفاء للماضي وتفاصيله. «الناس يصنعون الأمكنة» واحدة من أجمل ملامح مشروع النفيّد أن خطواته كانت شراكات أيادٍ، وهذا الانخراط المجتمعي، من الأهالي والقطاعين العام والخاص، أوجد روحًا جديدة في البلدة. رُفعت الأسقف من أجل أن يستظل الناس بظلّهم القديم. فكل تفصيلة أُعيدت كما كانت، وكل خشبة أعادت هي موقعها، وكأن الزمن قرّر أن يمنح المكان فرصة أخرى ليعيش، ولتصبح أكثر إشراقًا، لأن الضوء الذي عاد إليها خرج من الداخل، وهذا بحد ذاته قادر على حفظها في ذاكرة الزمن. «وجهة تُعيد تعريف السياحة الثقافية» في لحظة يسعى فيها العالم لصناعة تجارب فريدة تربط الزائر بالمكان، تقدّم النفيّد نموذجًا مختلفًا. فهنا، تتعدّى تجربة المرور فتتجاوز أن تكون محطة وقوف، بل دعوة للعبور نحو جذورك، لتتحول تدريجيًا إلى منصة تفاعلية للمعارض الثقافية والأنشطة الإبداعية، بأسلوب يجعل من كل حجر فرصة حوار، ومن كل ركن مكانًا لكتابة قصة. وهذا ما يُميز النفيّد عن سواها، لتمنح الزائر حق الإنصات. تشكّل النفيد اليوم فرصة عظيمة لتفعيل السياحة الثقافية المستدامة، فهي تمتلك كل المقومات: البنية، والتاريخ، والانخراط المجتمعي، والهوية المعمارية، والقدرة على أن تكون منصة معرفية وترفيهية في آنٍ معًا. «من الطين إلى الوعي» حين تُرمم بلدة قديمة، فإن الأمر لا يخص المباني وحدها. هو في حقيقته مشروع لرفع منسوب الوعي الجمعي بالهوية. النفيّد بهذا المعنى مدرسة للذاكرة، وقيمة تلعب دورًا اجتماعيًا وثقافيًا في تربية الحس، وتحفيز الخيال، واستعادة العلاقة العضوية بين الإنسان وبيئته. المكان هنا لا يتكلم بلغة الأمس، بل يفتح أمام زائريه احتمالات للحوار مع الحاضر. وهذا تمامًا ما يجعل النفيّد واحدة من التجارب النادرة في إعادة الاعتبار لما هو أصيل، دون أن تُجبره على التجمد. حين تهمّ بالخروج من النفيّد، تكتشف أنك مررت بتجربة شعورية شديدة الخصوصية. ولن تُفرغ ذاكرتك من المدن، إلا أنها تملؤها بما يشبه الحنين، حنين إلى عيش بساطة لم تسكنك. هكذا، تصبح البلدة الصغيرة وطنًا رمزيًا، ومرآةً تعكس، وصوتًا يقول: العمارة وسيلة لصون الذاكرة، ومجالًا لترميم الإنسان من الداخل.