في جنوبي المملكة وتحديداً منطقة جازان حيث تتجاور البساطة مع الأسئلة الكبرى، تبدأ حكاية فتاة وُلدت بجسد يفتقد شيئًا مما اعتادته الأجساد، لكنها وُهبت روحًا مكتملة لا ينقصها معنى. وُلدت محمدية زكري بإصبع واحد في يدها اليسرى، وبلا أقدام تمنح الجسد خطاه الأولى، غير أن الحياة منحتها ما هو أعمق، خطوات داخلية لا تُرى، لكنها تُغير اتجاه الأحلام، ومنذُ اللحظة الأولى، كانت تقول للعالم بصمتها الأول: «ها أنا.. كما أنا، ولن أكون أقل مما أريد» البداية: جسد مختلف.. وروح تعرف كيف تقف لم تتعلم محمدية فلسفة الحياة في الكتب، بل أدركت بحدس الطفولة أن الطريق وعر، وأن العدالة ليست وعدًا دائمًا، لكن الإنسان قادر على خلق مساحته الخاصة من الضوء. علمت نفسها الكتابة بإصبع واحد، تمسك بالقلم كما يمسك الطفل أول خيط للحلم. ومع الوقت، صار ذلك الإصبع نافذة صغيرة تُطل منها على العالم: تكتب واجباتها، ترسم محاولاتها الأولى، وتدون خواطر تُشبه رسائل سرية تضعها تحت وسادتها. وكتبت ذات يوم في إحدى بواكير نصوصها: «لا أخاف من النقص.. أخاف أن أتوقف عن المحاولة»، كانت تلك بذرة الوعي الأولى، وإعلانًا داخليًا عن بدايات القوة. الجامعة: حين تتخذ التجربة صوتها كبرت محمدية، وكبر معها سؤالها الدائم: كيف يتحول العجز إلى لغة؟ اختارت دراسة الإعلام لأنها أرادت أن تمتلك خطابها، وأن تحول تجربتها من قصة شخصية إلى رؤية تتقاطع مع قضايا الإنسان، وفي قاعات الجامعة، كانت تكتب مشاريعها وتقاريرها بإصبع واحد، لكنها كانت تكتبها بطاقة من عرف نفسه طويلًا، وعرف أين يضع الكلمة.. وأين يترك الصمت. وفي يومياتها كتبت: «النجاح لا يحتاج أطرافًا.. يحتاج وضوحًا في الطريق». الفن: الإصبع الذي صار بابًا.. بعد التخرج، كان الرسم امتدادًا طبيعيًا لسؤالها الداخلي. تتحرك في حياتها بلا أقدام، لكنها تتحرك داخل الفن بخطوات لا يخطئها الضوء. ترسم بإصبع واحد لوحات وطنية وإنسانية، شفافة وعميقة، تحمل ملمس تجربتها وحدّتها في آن واحد. كانت تقول دائمًا: «الرسم ليس مهارة.. إنه حوار مع الجزء الذي لا نراه من أنفسنا». الخاطرة.. بيوت صغيرة للروح كتبت محمدية الخواطر كما لو أنها تبني بيوتاً صغيرة للروح كي تستريح فيها. كتبت عن الألم، وعن البهجة الخفيفة، وعن محاولاتها اليومية لصنع يوم يشبهها.. كانت تدرك أن المعنى قد يُمسك أحيانًا بإصبع واحد فقط. ومن خواطرها التي تُلخص رحلتها: «أحتاج إصبعًا واحدًا.. ما دام قلبي يتسع لكل المحاولات» "الله منحني إصبعًا.. وبه كتبت قصتي" تروي محمدية ل»الرياض» حكايتها بجملة تختصر البدايات كلها: «حين وُلدت، ظن البعض أنني سأعيش على الهامش.. لكن الله منحني إصبعًا، وبه كتبت قصتي». وتستعيد صورة والدتها الراحلة، التي كانت ظلًا يحفظ الضوء من أن يتسرب. كانت الأم سندًا وأمانًا ويدًا غير مرئية تدفعها نحو الحياة. رحلت الأم، لكن أثرها بقي.. في كل لوحة، وكل نص، وكل خطوة لا تُقاس بالأقدام، بل بقدرة الروح على الذهاب أبعد مما يبدو ممكنًا. حياة تبدأ بإصبع.. وتمتد إلى معنى قصة محمدية ليست عن جسد فقد أطرافه، بل عن روح لم تفقد قدرة الاكتشاف. وعندما نتتبع مسارها من الطفولة إلى الجامعة إلى الفن، ندرك أن الإصبع الواحد لم يكن أداة فحسب.. بل علامة على أن الإنسان يُكتب بمعناه، لا بهيئته.