مستهلكون: ننتظر تفاعلًا ائتمانيًا يواكب مشروع «التوازن العقاري» ويعزز تحقيق المستهدفات في خطوة متوقعة لكبح تباطؤ الاقتصاد، خفّض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس للمرة الثالثة على التوالي مؤخرًا، وهذا الخفض المستمر أوصل نطاق الفائدة الأميركية إلى قرابة 4.0 % – 4.25 % بنهاية 2025م، وكما جرت العادة في المنطقة، تحذو البنوك المركزية في المنطقة حذو الفيدرالي الأميركي، حيث خفّضت معظمها أسعار الفائدة الأساسية بنسبة مماثلة دعمًا لاقتصاداتها، وقد أعلن البنك المركزي السعودي (ساما) بدوره خفض سعر اتفاقية إعادة الشراء (الريبو) ب25 نقطة أساس إلى %4.25، وسعر إعادة الشراء العكسي إلى %3.75، ويُفترض أن يُسهم هذا التيسير النقدي عالميًا وإقليميًا في خفض تكاليف التمويل وتنشيط الاستثمار والإنفاق، وهي أخبار مبشرة للمقترضين عموماً وللمهتمين بسوق الإسكان خصوصاً، ولكن رغم هذه الرياح النقدية المواتية، يظل السؤال: هل ستصل فوائد خفض الفائدة بالفعل إلى المستهلك النهائي، وتحديدًا لأولئك الساعين لتملك "منزل العمر"؟ أم أن هناك عوامل أخرى تبطئ ترجمة انخفاض تكلفة الاقتراض إلى انتعاش في سوق العقار المحلي؟ مشروع التوازن العقاري يحدّ من غلاء الأسعار على صعيد موازٍ للتحركات النقدية، أطلقت المملكة مبادرات هيكلية لكبح جماح أسعار الإسكان وجعلها في متناول المواطنين، ولعل أبرزها مشروع التوازن العقاري، الذي أُعلن بتوجيه من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث توفر منصة التوازن العقاري في مدينة الرياض عشرات الآلاف من الأراضي السكنية المخططة سنويًا (ما بين 10,000 إلى 40,000 قطعة أرض كل عام على مدار خمس سنوات) بأسعار لا تتجاوز 1,500 ريال للمتر المربع، وتشرف الهيئة الملكية لمدينة الرياض على تنفيذ هذا المشروع الذي يهدف إلى "تحقيق التوازن العقاري" وتعزيز تملك المساكن للمستفيدين، وهذه الخطوة وُصفت بأنها "عيديّة" سكنية قدّمها ولي العهد للمواطنين الباحثين عن منزل، حيث أسهمت في كبح ارتفاع الأسعار الجنوني الذي شهدته السوق سابقًا، وأعادت الأمل بتحقق حلم منزل العمر لشرائح أوسع من المجتمع، فبعد سنوات من التضخم العقاري، بدأ منحنى الأسعار يتجه نحو الاعتدال، بل ولوحظت بدايات تراجع في أسعار بعض المناطق نتيجة زيادة المعروض المدعوم حكوميًا. وبحسب مراقبون: "أدّت هذه القرارات الإستراتيجية إلى تهدئة أسعار العقار والبدء بإعادتها لمستويات أكثر واقعية ومعقولة"، وبالنسبة لشريحة الشباب والأسر متوسطة الدخل التي أنهكتها موجات الغلاء العقاري، كانت تلك التطورات بمثابة طوق نجاة وبارقة أمل؛ إذ بات امتلاك مسكن خاص أقرب إلى المتناول مع انخفاض قيمة الأرض والوحدة السكنية عما كانت عليه قبل عام أو اثنين، إلًا أنّه ورغم هذا الانفراج النسبي في الأسعار، ظهرت ظاهرة مقلقة تتمثل في ركود حركة السوق العقارية، وهو ما يرجعه الخبراء إلى عوامل متداخلة، منها انتظار المشترين لمزيد من الانخفاض، وتريّث البائعين على أمل ارتداد الأسعار، والأهم من ذلك: اشتراطات التمويل التي لا تزال تحول دون استفادة البعض من فرصة انخفاض الأسعار. ركود السوق العقاري رغم تراجع الأسعار وبالنظر إلى المؤشرات الراهنة، يمكن وصف سوق الإسكان السعودي بأنه في حالة ترقّب وحذر، فعلى الرغم من تراجع الأسعار وإطلاق برامج الدعم، لم تشهد حركة البيع والشراء الانتعاش المأمول بعد، ويرى محللون أن السبب الرئيسي هو معضلة التمويل: فتيسير القروض العقارية لا يزال أبطأ من التحولات الإيجابية الأخرى، وتشير تقارير إلى بوادر تباطؤ في نمو الائتمان المصرفي بالسعودية لأول مرة منذ سنوات، حيث انخفضت مثلًا القروض المتوسطة الأجل لدى البنوك بنسبة 5 % في الربع الثالث 2025م، وهو أول تراجع فصلي منذ 2022م، في حين تستمر التسهيلات الائتمانية قصيرة وطويلة الأجل في النمو، فإن البنوك أصبحت أكثر انتقائية في منح القروض؛ إذ لم تعد تلبي كل الطلبات كما في السابق، وهذا التشدد النسبي في المعايير يأتي متزامنًا مع متطلبات تنظيمية جديدة وارتفاع نسبة القروض إلى الودائع لمستويات تاريخية (تجاوزت 115 %)، مما قيّد شهية المصارف للإقراض السكني كما في السابق. في المقابل، يجد الكثير من المواطنين أنفسهم في موقف محيّر: الأسعار أخيرًا تنخفض أو تستقر، والفائدة تنزل، لكن الحصول على قرض مناسب بات تحديًا، ودخل السوق في حالة جمود نسبي؛ المشترون المحتملون ينتظرون عروض تمويل أفضل، والبنوك تتحسّب لمخاطر أعلى وتفرّق في المعاملة بين فئات المقترضين، ويخشى خبراء أنه إذا استمر هذا الجمود، فقد تتعطل أهداف مشروع التوازن العقاري الساعي لرفع نسبة تملك المساكن، ومن هنا، تتركز الأنظار على دور البنوك التجارية: هل يمكن أن تكون جزءًا من الحل عبر تسهيل التمويل وخفض هوامش الربح، بدلًا من أن تكون جزءًا من المشكلة؟ نسبة الاقتطاع الشهري وحول انخفاض الأسعار وصعوبة التمويل قال سلطان العلي: "مع انفتاح باب تملك الأراضي والمساكن بأسعار معقولة، ظننت أن الوقت قد حان لتحقيق حلمه في اقتناء منزل للأسرة، لكن تفاجأت عند تقدمت بطلب قرض عقاري بحجم الاستقطاع الشهري الذي اشترطه البنك"، مضيفًا: "صُدمت عندما رأيت القسط المقترح، سيأخذ معظم راتبي، صحيح أن النسبة التي عرضها البنك تمكنني ظاهريًا من شراء منزل العمر، لكنها ستضر بأسلوب حياتي بشكل كبير"، مشيرًا إلى أنّه وجد أنّ الالتزام بقسط مرتفع يعني التضحية ببنود أساسية من إنفاقه الشهري وربما تقويض قدرته على تلبية احتياجات معيشية أخرى له ولعائلته، وبحسب مبادئ التمويل المسؤول الصادرة عن "ساما"، يمكن أن تصل نسبة الاقتطاع إلى (55 %) من الدخل الشهري لشريحة أصحاب الرواتب المنخفضة (15 ألف وأقل)، وهي نسبة يرى أنّها مرهقة للغاية حتى لو كانت قانونية، وتابع متحسرًا: "أتمنى لو توفرت برامج تمويل سكني أفضل تراعي اختلاف مستوى الدخل، نسمع عن مبادرات لكنها لا تصلنا، أشعر أن حلم البيت يأتي على حساب كل شيء آخر". تصنيف المخاطر لدى البنوك حالة "سلطان" تمثل شريحة واسعة من المواطنين محدودي ومتوسطي الدخل، الذين يحتاجون حلولا تمويلية أكثر رحمة وتنوعًا، حيث يواجه "خالد العبدالله" معضلة مختلفة رغم ترحيبه بانخفاض الأسعار، لافتًا إلى أنّه راقب عن كثب مشروع التوازن العقاري وهو يكبح ارتفاع الأسعار الجنوني، قائلًا: "ليست المشكلة في الأسعار حاليًا؛ مشروع التوازن بدأ يعيد الأسعار لمناطق معقولة ويمكن أن تنخفض أكثر مستقبلًا، الإشكالية أن البنوك تضيق الخناق على موظفي القطاع الخاص"، مبيّنًا أنّ الكثير من البنوك تصنّف موظفي الشركات الخاصة وفق فئات مخاطرة، فتقلّص سقف تمويلهم أو ترفع كلفته مقارنة بموظفي الجهات الحكومية أو الشركات الكبيرة، مضيفًا: "أنا وزملائي في القطاع الخاص نعاني؛ عروض التمويل العقاري التي نحصل عليها سيئة، إمّا فوائد أعلى أو اشتراطات أصعب، بينما نرى البنوك تمنح امتيازات ونسب فائدة مغرية لأصحاب الرواتب العالية جدًا من موظفي الحكومة أو الشركات الكبرى، والذين غالبًا لا يحتاجون أصلاً لتمويل لشراء منازل"، منوهًا: "هذه المفارقة غير عادلة: فالأكثر احتياجًا للدعم هم موظفو القطاع الخاص متوسطو الدخل، والذين يواجهون عقبات بعد عقبات، بينما تُفرش السجادة الحمراء تمويليًا لمن هم أقل احتياجًا أصلًا للتمويل، والذين يمكنهم الحصول على منزل العمر من خلال برامج الادخار وغيرها"، مطالبًا بأن تعيد البنوك النظر في سياسات التصنيف والمفاضلة بين العملاء، مؤكدًا على أنّ الكثير من موظفي القطاع الخاص موثوقون ودخولهم ثابتة، لكنها لا تلقى التقدير نفسه، فبرأيه، لا بد من تكثيف المنافسة بين المصارف على هذه الشريحة وإطلاق عروض أكثر مرونة وجاذبية لهم، خاصة في ظل الدعم الحكومي للسكن وتراجع أسعار العقار. من جهته ركّز "أحمد العسيري" على دور الجهات الرقابية، لافتًا إلى أنّه صُدم حين أدرك أن الفائدة السنوية التي تفرضها البنوك على القروض العقارية بالكاد تأثرت بخفض الفائدة الأخير، قائلًا: "البنوك ما زالت تتعامل بفوائد مرتفعة وهوامش ربح كبيرة، كأن خفض الفائدة لم يكن، وهي التي تتفاعل بسرعة البرق مع قرارات رفع الفائدة، وهذا يجعل القسط الشهري مرتفعًا جدًا ويتسبب في تعثر الكثيرين"، منوهًا بهوامش الربح التي تفرضها المصارف فوق تكلفة التمويل الأساسية، ففي بيئة يفترض أنها منخفضة الفائدة، توقع المقترضون انخفاضًا ملموسًا في الأقساط، لكن ذلك لم يحدث بالقدر الكافي، مضيفًا: "أتمنى لو أن البنك المركزي يتدخل ويفرض على البنوك تقليص هوامش الربح بشكل عقلاني، فالهوامش المبالغ فيها هي سبب مباشر لارتفاع الأقساط الشهرية، وهي ما يكبّل المواطنين بديون طويلة تثقل كاهلهم"، كما دعا إلى ضوابط أكثر مرونة وابتكارًا في قواعد الإقراض، بحيث تكون القروض العقارية "حميدة بالفعل"، وتكون داعمة لتحقيق الاستقرار السكني للأسرة، وليست قروضًا مُرهِقة تتسبب في تعثر المقترض بمجرد تغير ظرفه المالي قليلًا، لافتًا إلى أنّ تحقيق حلم السكن يجب ألا يتحول إلى كابوس ديون، وهنا يكمن دور السياسة النقدية والرقابية لضمان ذلك. دعوات لمراجعة الضوابط ودور أكبر ل"المركزي" وأمام هذه الصورة المتباينة، ترتفع أصوات المواطنين والمهتمين بالشأن الاقتصادي على حد سواء، مطالبةً البنك المركزي السعودي (ساما) بلعب دور أكثر فاعلية في المرحلة القادمة، فهناك حاجة ملحّة إلى مراجعة قواعد التمويل المسؤول الصادرة عام 2018م؛ لضمان تحقيق غايتها المنشودة، فهذه المبادئ وُضعت "لتشجيع التمويل لتلبية الاحتياجات الفعلية للعملاء كالمساكن والأصول بدلًا من الأغراض الاستهلاكية"، وكذلك لتعزيز الشمول المالي، وتوفير التمويل المناسب لجميع فئات المجتمع، مع مراعاة قدرة العميل على التحمل، ورغم ما حققته من ضبط نسبي لمنح القروض، يرى البعض أنها بحاجة إلى تحديث يأخذ بالاعتبار المتغيرات الاقتصادية الأخيرة، مثلاً، هل نسبة الاقتطاع القصوى (55 %-65 %) بحسب الدخل لا تزال ملائمة لتحقيق التوازن بين دعم المستفيد وحمايته؟ أم أنها تُستخدم الآن كسقف يدفع البنوك للاقتراب منه دون مراعاة كافية لجودة حياة المقترض بعد الاقتطاع؟ علاوة على ذلك، يبرز دور الرقابة على البنوك التجارية، فبحسب تقرير ل"بلومبرغ الشرق" تظهر البيانات أن القطاع المصرفي السعودي يواصل تحقيق أرباح قياسية مدفوعة بجزء منها بارتفاع هوامش الفائدة على القروض، إذ سجلت البنوك المدرجة في السوق السعودي أعلى أرباح فصلية في تاريخها خلال الربع الثالث 2025م، بإجمالي صافي أرباح بلغ 23.62 مليار ريال -بعد الزكاة والضريبة-، وهذا الرقم الضخم يفوق ما حققته البنوك في الفترة نفسها من عام 2024م بنحو 3.1 مليار ريال، أي بزيادة سنوية تتجاوز (15 %)، والمفارقة أن هذا النمو القوي في الأرباح يأتي رغم تباطؤ نمو الإقراض مقارنة بالسنوات السابقة.