«لقد تغيرت النظرة إلى الشرق الأوسط... إلى مصدر للشراكة والفرص الاستثمارية، بعدما تراجعت... ضرورات التدخل والمشاركة والتواجد العسكري المكثف للولايات المتحدة في المنطقة. «لذا فدول الشرق الأوسط والعربية منها... معنية الآن أكثر من أي وقت مضى بوضع استراتيجية جامعة تنظر إلى المصلحة العربية أولاً، وذلك بتبني خيار الاعتماد على الذات وتوسيع قاعدة التحالفات الدولية والشراكات. شهدت استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنتها إدارة الرئيس ترمب قبل أكثر من أسبوع تحولاً جذرياً في رؤيتها مقارنةً بالاستراتيجيات السابقة عليها، بما شكّل شبه قطيعة مع النهج الذي اتبعته الولاياتالمتحدة على مدار أكثر من سبعة عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في تعاملها مع العالم، حين نصّبت نفسها قائدة للنظام العالمي ومسؤولة عن الحفاظ عليه وبناء التحالفات الدولية وتعزيز الديمقراطية - كما تراها - حتى لو وصل الأمر إلى تدخلها العسكري المباشر لتغيير الأنظمة. وقد شددت الاستراتيجية الجديدة على مبدأ «أميركا أولًا» وكذلك تجنب تبديد القوة الأميركية في حروب طويلة أو في التوسع غير المدروس وعدم التدخل أو فرض جداول أعمال سياسية إصلاحية قسراً تخالف تقاليد وطبائع الشعوب، بما يعنيه ذلك من إعادة تموضع الولاياتالمتحدة، مع تركيز اهتمامها على غرب الكرة الأرضية المتمثل في الأميركتين. الاستراتيجية الجديدة ورؤية ترمب الشخصية والحقيقة أن ما جاء من بنود في هذه الاستراتيجية يتماهى تمامًا مع شخوص وسلوكيات هذه الإدارة التي منذ توليها المسؤولية تتصرف وفقاً لمبدأ المصلحة والتركيز على المكاسب الاقتصادية، وفي ذلك لا فرق لديها بين عدو وحليف طالما كانت الصفقة مميزة والربح مضمون، إنها استراتيجية تعد أكثر انغلاقاً على الداخل وتعكس أفكار ترمب الشخصية وطريقة تعامله مع الأحداث وإعطائه الأولوية لقضايا كالهجرة وأمن الحدود والمفاوضات الاقتصادية، وانطلاقه من تساؤل وحيد يخص كل تحرك أميركي خارج الحدود هل يخدم المصلحة الأميركية أم لا دون النظر لمدى تأثر الحلفاء التقليديين أو تضررهم. غير أن هذه الاستراتيجية باعتقادي يمكن بحق أن توصف بأنها لوحة أفكار أكثر من كونها استراتيجية مدروسة، كونها في نظري تظل مجموعة من الشعارات المتعلقة ب"أميركا أولاً" تخاطب عالماً قد تغير جذريًا حينما كانت واشنطن منشغلة بجوانب أخرى، فلم يعد الأمر الآن متعلقاً أو يسير وفقاً لما تريده أميركا فقط، بعدما تغير الواقع الآن وبرزت أطراف أخرى - على رأسها الصين - تحاول استغلال هذه المرحلة الانتقالية لفرض واقع جديد وتشكيل نظام أكثر تعددية واستغلال كل فرصة لملء أي فراغ ناتج عن تخلي الولاياتالمتحدة عن أدوارها فيه، لذا تظل هذه الاستراتيجية غير كافية باعتقادي لمواجهة التحديات العالمية الحالية، مما يعزز الحاجة إلى نهج أكثر تماسكًا. يتوقع الكثير من الخبراء والمحللين السياسيين والعسكريين أن تحمل السنوات المقبلة الكثير من التوتر والقرارات الصعبة المتعلقة بالحروب والتجارة والتحالفات، وخلال السنوات المقبلة عندما تواجه الولاياتالمتحدة هذه القرارات ستجد نفسها أمام عالم جديد وشرق أوسط مختلفين تمامًا عن ذلك الذي هيمنت عليه الولاياتالمتحدة لعقود، ولعل هناك عوامل عدة مترابطة تبشر بهذا التحول، على رأسها تسريع إعادة التوازن الجيوسياسي والاقتصادي العالمي من خلال مبادرات مثل مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وتوسُّع مجموعة البريكس، وجهود تقليل الاعتماد على الدولار، وذلك دون إهمال أن الولاياتالمتحدة لن تسمح بذلك وستسعى بشتى السبل لمواجهة هذه العوامل، وهو ما ينذر بمزيد من التوتر والاضطراب الذي يخشاه الجميع. انقلاب على الحلفاء التقليديين كما أن الاستراتيجية الجديدة تتخذ من التهديد والإكراه وسيلة أساسية لتحقيق سيطرتها ومكاسبها، متخلية عن سياسة الردع المتكامل لصالح ترتيب أولويات تراها الأنسب لمصالحها الآن، إنها تخفف حمايتها عن حلفائها في آسيا حيث سيكون غرض الدور الأميركي في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والباسيفيكي هو تنظيم كل ما يتعلق بتقييد نفوذ الصين - المنافس والند الوحيد في الرؤية الأميركية الجديدة - بأشكاله المتعددة من تحالفات أو شراكات أمنية أو اقتصادية، وتطالب شركاءها في المنطقة ككوريا الجنوبية واليابان بالقيام بأدوار أمنية مباشرة لدعم تايوان والحد من طموح بكين للسيطرة عليها. أما قارة أوروبا بأكملها فلعل الاستراتيجية وجهت لدولها الإنذار الأقسى، بأن كل منها الآن باتت معنية أكثر بالدفاع عن نفسها وحماية حدودها ومصالحها، كون أوروبا لم تعد أولوية بالنسبة للإدارة الاميركية الحالية، بل تراها الاستراتيجية الجديدة ضعيفة متراجعة وتعاني من محو حضاري إذا استمرت سياسات استقبال اللاجئين وتراكم القيود التنظيمية على الاقتصاد، وأنها ما لم ترفع الإنفاق الدفاعي إلى 3-5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال خمس سنوات فإن الضمانة الأمنية الأميركية لدولها ستتلاشى. ماذا عن الشرق الأوسط ومنطقة الخليج؟ ولكن ماذا عن الشرق الأوسط ومنطقة الخليج في هذه الاستراتيجية؟ لقد تغيرت النظرة إلى الشرق الأوسط في استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة من مصدر دائم للقلق والتوتر والنزاعات الإقليمية إلى مصدر للشراكة والفرص الاستثمارية، بعدما تراجعت - وفقاً للاستراتيجية - ضرورات التدخل والمشاركة والتواجد العسكري المكثف للولايات المتحدة في المنطقة، كون إيران أصبحت بنظر الإدارة الاميركية أضعف كثيراً وانحسر خطرها فضلاً عن تراجع التركيز المكثف على أمن الطاقة مع إطلاق العنان لإنتاج الطاقة الأميركي وتنوع إمدادات الطاقة الأميركية وظهورها حالياً كمصدر صافٍ للطاقة، ومع التزام الولاياتالمتحدة بمنع أي قوة معادية من السيطرة على الشرق الأوسط وإمداداته من النفط والغاز ونقاط الاختناق الحيوية ومع تجنب "الحروب الأبدية" بشكل حاسم فالاستراتيجية ترى المنطقة مؤهلة لتكون مصدراً للشراكة ووجهةً للاستثمارات والفرص الاقتصادية في قطاعات تتجاوز القطاعات التقليدية كالنفط والغاز، إلى أخرى كالطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع. ولكن ما أغفلته الإدارة الأميركية الحالية فضلاً عن الانقسام الشديد داخل الولاياتالمتحدة نفسها تجاه هذه التحديات الخارجية أن أي استراتيجية تقتصر على ردود فعل عرضية وصفقات مؤقتة لتحقيق مكاسب آنية لن تتماسك في ظل هذا العالم المتقلب، خاصة مع ما فقدته الولاياتالمتحدة دولياً من سلطة أخلاقية وشعور عارم بالنفاق الاميركي الجامح خلال سنتي الحرب على غزة التي كانت تُدار بدعم أميركي سياسي ومالي وعسكري غير مشروط، مما دمر ما تبقى من مصداقية لواشنطن كوسيط محايد وأزال آخر خيال مشترك سمح بإدارة الأزمات الإقليمية الأخرى، وهو ما قد ينبئ بصراعات جديدة مع تفاقم الصراعات القديمة والبعد عن أي آفاق لحل هذه الأزمات إلى مسافات أبعد. لذا فدول الشرق الأوسط والعربية منها خاصةً في الحقيقة معنية الآن أكثر من أي وقت مضى بوضع استراتيجية جامعة تنظر إلى المصلحة العربية أولاً، وذلك بتبني خيار الاعتماد على الذات وتوسيع قاعدة التحالفات الدولية والشراكات والاتجاه نحو زيادة الانتاج المحلي وتعزيز الأمن الغذائي والمائي لدولها من خلال زيادة الاستثمار الزراعي داخلياً وخارجياً مع دول الجوار والاستثمار في سلاسل الإمداد العالمية لضمان تدفق الغذاء بعيداً عن أي اضطرابات جيوسياسية، وكذلك زيادة الاستثمار في الزراعة الصحراوية الذكية وتقنيات الزراعة العمودية وتحلية المياه لتقليل الاعتماد على استيراد المياه والغذاء، تجنباً لأي طارئ خلال الأشهر أو السنوات القليلة المقبلة. التجربة الخليجية مثالاً ولعل التجربة الخليجية في ذلك خلال السنوات الأخيرة كانت مثالاً يحتذى من خلال تبني قادتها لاستراتيجية تعتمد على تنويع التحالفات والشراكات الاقتصادية مع كثير من الأطراف الدولية الهامة كالصين وروسيا والهند والبرازيل وإنجلترا وفرنسا وباكستان وتركيا وتنويع أنواع التسليح فضلاً عن تخفيف حدة التوترات بدول الجوار ومنع اندلاع أي صراعات بالوكالة داخل المنطقة، حتى إن الحوار بين الدول الخليجية وإيران جاء عبر قنوات دبلوماسية مباشرة بوساطة صينية مع الإبقاء على علاقة استراتيجية في أمتن حالاتها مع الولاياتالمتحدة، إضافة إلى الاستثمار في العنصر البشري الخليجي والقيام بإصلاحات داخلية وتوفير فرص العمل للشباب وتهيئة البنية التحتية وتعديل القوانين وإقامة المشاريع التنموية التي تتبناها دول منطقة الخليج ككل لصالح رفاه مواطنيها، والقائمة على جذب الاستثمارات الخارجية لتعزيز مكانتها كوجهة للاستثمار والتجارة وتنويع مداخيل البلاد بعيداً عن العائدات النفطية، وهي تجربة جديرة بالإشادة وتستحق أن تعمم نحو تكامل عربي شامل يتيح للدول العربية رسم مستقبل مشترك يرتكز على الاستدامة والازدهار لمواطنيها. * أستاذ زائر بجامعة أريزونا الأميركية، مستشار لدى الجامعة الأميركية في بيروت. الاستراتيجية الأمنية الأميركية تعكس أفكار ترمب الشخصية تحليل - د. تركي فيصل الرشيد