في مساء يشبه فتح الصفحة الأولى من دفتر الوجدان، احتضن بيت الثقافة بحي التعاون أمسية «نشأة الأغنية السعودية» التي نظمها «مجالسيّات للثقافة الموسيقية»، وقدمها الناقد والصحفي عبدالرحمن الناصر، وأدارت الحوار سماح العرياني، في رحلة أعادت تشكيل ذاكرة الفن، وربطت الصوت السعودي بمكانه وزمانه، وبالحضور الإنساني الذي صنعه. لم تكن الأمسية بحثًا تاريخيًا فحسب، بل قراءة في فلسفة الصوت: كيف خرج من الأرض كنبتة.. ثم أصبح هوية كاملة لوطن يتشكل ويكبر؟. الأغنية.. حين تكون ابنة المكان يبدأ الناصر من الجغرافيا؛ فكل منطقة في المملكة كانت تغني بما يشبهها: في الجنوب، ولدت الخطوة الممتدة إلى قرون، تحمل صدى جبليًا ورتم المطر وخطوات الإنسان. بينما في الحجاز، نشأ المجس والصهبة والخبيتي والمدائح، حيث تمتزج الروحانية بتعدد الثقافات. وهي المتشابهات نفسها في حكايا الفن في نجد وسردياته، حيث خرجت ألوان السامري والعرضة والهجيني والقلطة من الشعر والربابة والصحراء. وهو وجه الاختلاف في بيئة الإنسان وثقافته، حيث المنطقة الشرقية والإحساء على الخصوص، فغنت البحر والغوص والنخيل والري؛ فجري، ليوة، وأغاني العمل من المزارعين والبنائين وغيرهم، كانت الأحساء تتباهى بالموسيقى وادواته ووجود آلة العود في مجالسهم، هذه الثقافة صنعت جيلاً ذهبيًا في الأغنية، ممتد إلى وقتنا الحاضر. وفي الشمال، تجلت الدحة والهجيني بإيقاع الصحراء المفتوحة. يقول الناصر: «الصوت ابن المكان.. والجغرافيا هنا ليست خرائط، بل ذاكرة» من هذا المنطلق نشأت أولى الوثائق التي عثر عليها في العام «1928» إثر تسجيلات الشريف هاشم، قبل أن تنطلق أولى الصناعات السمعية الإذاعة، ومسرح الإذاعة والتلفزيون.. كان هناك رجل سجل أول أثر صوتي وأقدم محاولات حفظ الصوت في الجزيرة العربية، كانت تلك اللحظة بذرة الوعي بأن الغناء يمكن أن يعيش خارج لحظته. أرامكو.. ذاكرة الصوت الأولى في تلك العقود، وثقت أرامكو الحياة اليومية بالصوت والصورة جلسات أهازيج غوص ألوان العمل والزراعة، وتحولات المجتمع اليومية والموسيقية، هكذا أصبح أرشيفها ذاكرة صوتية تكشف كيف غنى الناس قبل ولادة الفن بمعناه الحديث، عند غناء مطلق دخيل الذي ساعم وناور أيضًا في إذاعة البحرين القديمة. إذاعة طامي. . لحظة خروج الصوت من المجلس إلى الأثير كان في نهاية الخمسينات الميلادية من القرن الماضي، الأثر في خطوات الصوت المموسق عبر إذاعة طامي، التي فتحت بابًا شعبيًا أنيقًا. ظهر فيها الثلاثي المؤسس: عبدالله السلوم، عبدالعزيز الحمّاد «أبو سعود الحمادي» وسعد إبراهيم. كانت لفرقة السلوم شأن في تجديد فكرة الغناء والموسيقى في منطقة تكاد تكون جرداء من الفن وأدواته. غنى السلوم أغنية «نامت عيون الناس والعين سهرانة»، اللحن الأول لأغنية «خلاص من حبكم يازين عزلنا»، النقلة الأولى عبر الأثير، والتحول للأغاني العاطفية التي ابتدعها عبدالله السلوم. الإذاعة والتلفزيون.. من الفطرة إلى الصناعة من إذاعة جدة ثم الرياض، أصبح الفنان يتعلم الانضباط، وأصبح النص المسموع يختلف عن القصيدة، وصار التسجيل معيارًا للجودة، ثم جاء التلفزيون ليصنع نجومية بصرية، ويحول الأغنية من لحظة صوتية إلى حضور كامل. طارق عبدالحكيم.. «هكذا يغنون» كان طارق عبدالحكيم جسرًا بين التراث والحداثة، وقدم عبر برنامج «هكذا يغنون»، ألوان المملكة كلها، مفتتحاً أبواباً للمواهب الجديدة. كان لسمو الأمير منصور بن عبدالعزيز -رحمه الله- موقفاً جعل للموسيقى العسكرية وبناء الفرق الفنية خطاً جديداً مختلفًا، سافر طارق عبدالحكيم للاطلاع على التجارب العربية، ثم عاد لينضم فرقة موسيقى للجيش، حيث اكتملت أدواته. «1942» أول أغنية وطنية سعودية كان للشاعر «الملا علي» أولى قصائد المدح في الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، لكنه لم ينشدها في بداية الأمر وترك للمطرب الكويتي الشهير عبداللطيف الكويتي فرصة إلقائها أمام الملك عبدالعزيز خلال زيارته لمملكة في عام «1934»، حينها منحه الملك عبدالعزيز هدية قيمة. ليجمع أوراقه ويسافر إلى مدينة حلب في سوريا ويسجل أول وثيقة أغنية من أسطوانات «القار»، بيعت حينها «1942» بثلاثين روبية. طلال مداح.. الابتكار الذي صاغ الوعي الحديث يأتي الناصر إلى اللحظة التي صنع فيها طلال مدّاح منعطف الأغنية السعودية. فطلال لم يكن يتعامل مع اللحن كغناء، بل كصنعة فنية واعية تشبه تفكير عبدالوهاب والسنباطي، التي ساهمت هذه المدارس في صناعة وعيه الفني، قبل أن يعبّد الطريق لمرحلة الغناء في «وردك يا زارع الورد» وهي التي غيرت فكرة واتجاه الأغنية السعودية، ودفعت كل منطقة نحو الابتكار والسير خلفه. غازي علي.. الغربية التي حفظت أرشيفه سجل غازي علي أعمالًا خالدة في إذاعة جدة «يانسيم الدجى، زي القمر»، لكنه أيضا برع في تقديم الألحان من بينها لحنَ أغنية «أسمر حليوة» لطلال مداح، كان غازي من الأصوات البارعة الأكاديمية، التي أسهمت في تشكيل الوعي الغنائي الحجازي في البدايات. لطفي زيني ومشقاص النص الغنائي حين يصبح فنًا مستقلًا النص الغنائي السعودي لم يكن شعرًا، بل فنًّا لغويًا جديدًا يولد مع اللحن، هنا برز لطفي زيني بلغته التي تحكي تفاصيل أزقة جدة الراقية، ومشقاص بنصوصه اليومية الشعبية التي تشبه حياة الناس. معهما اكتمل مثلث الأغنية: صوت – لحن – نص. سلامة العبدالله.. أول شركة إنتاج رسمية ومع الزمن، جاء الفنان سلامة العبدالله ليكون أول سعودي يسجل شركة خاصة، تحت اسم «هتاف» بعد مشوار طويل مع الفن، ناقلاً مشواره الفني بين بدايات المعرفة ب»طريق كرا» إلى أرشفة الأغاني، حيث العفوية إلى الاحتراف. فن المونولوج.. حين يضحك المجتمع على نفسه ويتوقف الناصر عند فن المونولوج الذي مر عبر الإذاعات في العقود المبكرة. كان المونولوج فناً يمزج الغناء بالحكاية والنقد الذكي الساخر، والذي كان حينها يقدم نقدًا اجتماعيًا ناعمًا، ليس غناء، بل تحفة «أنثروبولوجية» خالصة.