انطلق المنهج العلمي الذي انتهجه العلماء العرب في أبحاثهم وتجاربهم وتأملاتهم ومن الواقع الذي كانوا يعيشون في كنفه ففسروا الظواهر الطبيعية وعللوها بعيدًا عن أيِّ اعتقاد غيبي أو رأي واهن، وكانوا يبغون الحقيقة لذاتها مجردة من أيِّ ميل وخالصة من أي هوى، فلم يكن هدفهم كسباً مادياً أو طمعاً في شهرة وإنما كان رائدهم في ذلك الجد في العمل والبحث عن الحقيقة، ولم يكن ذلك آتياً من فراغ، فقد دعا القرآن الكريم في كثير من آياته إلى الاعتبار والتبصُّر حيث يقول سبحانه: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار» (الحشر:2) وإلى البحث وإمعان النظر: «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» )الأعراف:185(، وإلى النهل والاستزادة من العلم: «وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» )طه:114(، وإلى السمو بمنزلة العلماء: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» )الزمر:9(، وإلى الإشادة بمكانة العلم والعلماء: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» )المجادلة: 11(، كذلك تبجيل العلماء: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» )فاطر:28(. كذلك تكريم العلماء وتوقيرهم في وضعهم في مرتبة بعد الملائكة: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ» )آل عمران:18(، ودلالة فضل العلم وأثره: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» )النمل: 15(. هذه الآيات الكريمة غيض من فيض مما يحفل به القرآن الكريم تحْفز العقل للتفكُّر والتدبُّر، وتحثُّ الفرد على طلب العلم وتلمُّس المعرفة في أعماق ذاته وفيما وهبه الخالق من ملكات وفي رحاب الكون وما يَتْرى فيه من ظواهر ومتغيرات، وقد كان التراث العربي تراثًا تليدًا ورافدًا غنيًا وينبوعًا ثريًا للثقافة الإنسانية منذ الأزل وإن دوره كان ولا يزال دور سبق وريادة وإضافة وإبداع وعطاء، وليست خاصة بتراثها العربي فحسب وهو قمة عطائها وذروة سنامها ولكن بما تمثلته من عناصر الحضارات الأخرى، وبلغتها العربية التي ظلت سيدة لغات العالم تُشعُّ فكرًا وعلمًا واقتصادًا وسياسة وتقدمًا وحضارة توحي بالحث على التعلم والتفكر والمعرفة والابتكار على مدى قرون عديدة، وكل هذا يتبدَّى من خلال مسيرة طويلة حافلة تحتفظ بعبق التاريخ وأصالة الماضي الذي تزخر صفحاته وتلمع أسطره وتزدان ملامحه بما يحتفظ به التراث العربي في طياته من مخزون حضاري عريق وتراث علمي تليد ثابتٍ وباقٍ على مر الزمن. من هنا، فإنه لا يستغرب أن تولي الثقافة الغربية والقاطعة شوطاً كبيرًاً في مضامير الحضارة والتطور اهتماماً للثقافة بحقولها كافة، ولا شك أن الإبداع والابتكار في تجلياتها التراثية والعلمية والفكرية والعقلية كافة يحظيان باهتمام كبير على اعتبار أنهما غصنا الحضارة الأرقى اللذان يُعوِّل عليهما في خدمة البشرية وإضفاء الرخاء والرغد والنماء على حياتها. ولقد شهد التراث العربي وثبات حضارية وتحولات إبداعية مذهلة تمثلت عبر تاريخه الطويل في تجسيد لهذا التحول والإزهار والخصب في تمظهر التراث العربي بتجلياته الحضارية وملامحه الثقافية التي ساهمت في نقل المعرفة والعلوم بين الثقافات المختلفة وفي تشكيل التفكير الغربي الحديث الذي اكتشف التراث العربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر وتأثر به. يقول أحمد شوكت في كتابه (تاريخ الطب وآدابه وأعلامه): «إن على من يتصدى للبحث عن أثر العلماء العرب والمسلمين وغيرهم في العصر الوسيط أن يعود بنفسه إلى ما كان عليه العالم في ذلك الحين من تخبط في الجهل واعتقاد في الخرافات، ثم يُرجِع البصر إلى أين العلم العربي الإسلامي ليدرك حقيقة ما قام به علماء العرب والإسلام من حفظ للعلوم القديمة وابتكار لنظريات حديثة واختبارات جديدة وحلقوا بها في آفاق العلم القديم وأضافوا إليها كثيرًا من الشيء الحديث وحاربوا الخرافات دون هوادة»، كما اعترفت المؤلفة الألمانية زيجرد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) بالتراث العلمي العربي الإسلامي قائلة: «لقد آن الأوان لكي نعترف بالفضل للعرب المسلمين، هذا الاعتراف الذي منعتنا منه قرون طويلة من التعصب والجهالة»، وأضافت المؤلفة أن الإسهامات العلمية التي قدمها العلماء المسلمون في مجالات مثل: الرياضيات والفيزياء والفلك والطب والكيمياء وعلوم الطبيعة والفلسفة والرياضيات والجغرافيا والتاريخ والطب كانت ركيزة للنهضة الأوروبية». كما أشارت المؤلفة إلى دور الترجمة في التواصل الثقافي ونقل المعرفة من العربية إلى اللاتينية، مما ساهم في إثراء الفكر الأوروبي خلال العصور الوسطى. وتدعو هونكة إلى تحدي المفاهيم السائدة نحو إعادة تقييم النظرة التقليدية لتاريخ العلم، حيث تبرز الدور المحوري للثقافة الإسلامية في تشكيل العلوم الحديثة وتوضح الإرث الحضاري في العديد من المفاهيم الأساسية التي نعتبرها جزءًا من العلوم الحديثة ذات الجذور العربية، مما يعكس عمق الثقافة الإسلامية وتأثيرها العالمي، كما لاحظت المؤلفة الهوة الثقافية والثغرة الفكرية بين الشرق والغرب وعبَّرت عن اعتزازها بالتراث العلمي العربي الإسلامي، مؤكدة على ضرورة الانفتاح على هذا الإرث العظيم وتقديره لتعزيز الحضارة الإنسانية والعمل على تطويرها. ولو تناولنا عددًا من أعلام العرب البارزين الأفذاذ الذين خلفوا تراثًا كبيرًا باقيًا في الطب وساهموا في تطور الطب في العالم الإسلامي في حقب متفاوتة، مما يعكس تأثيرهم على العلوم الطبية عبر العصور لبدأنا بالشيخ الرئيس «ابن سينا» والذي يعتبر واحدًا من أعظم جهابذة الأطباء والفلاسفة في التاريخ، حيث أثرت آراؤه وأفكاره وعلومه في الفكر الغربي خلال العصور الوسطى. لقد نبغ الشيخ ابن سينا في شتى ضروب العلم والمعرفة التي مهر فيها وحذقها وهو دون العشرين من عمره. ولد الشيخ ابن سينا في قرية من قرى بخارى ثم انتقل مع أبيه إلى بخارى، وكان أبوه من محبي ومشجعي أهل العلم وطلابه، فكان يدعو العلماء المشهورين آنذاك ليعلموا ابنه القرآن الكريم والأدب وقواعد اللغة والتي حذقها حتى أصبح يقرأ ويعلق على كثير من مؤلفات علماء اليونان مثل: كتب إقليدس الهندسية وكتاب المجسطي (الرسالة الرياضياتية) وكتب الطبيعيات والمنطق وغيرها، وقد اهتم والده بتعليمه الرياضيات والمنطق والفلك لأنها معارف شاملة ودقيقة وثابتة، ثم اعتكف على دراسة الطب والعلوم وبرع فيها فأصبح طبيباً للأمراء وكتب عدة رسائل في هذا الميدان. وقليلون هم الذين يعرفون أن ابن سينا كان له ولع بعلوم المنطق، ولذا اهتم بعلوم الرياضيات والفلك وكان له إنتاج علمي غزير فيها، كذلك اهتم ابن سينا بالرصد، وله آلة رصد تعرف باسمه عبر التاريخ، وقد قدم العديد من المؤلفات في الطب ومن أبرزها كتاب «القانون في الطب» الذي يعتبر مرجعًا طبيًا مهمًا لما كان له من تأثير طويل الأمد على العلوم الطبية وانعكاس مباشر على الكثير من طرقها وأفكارها وقوانينها. كما يعتبر الرازي من من أوائل الأطباء الذين استخدموا أساليب التجريب في الطب، وله أعمال شهيرة مثل: «الكتاب الكبير في الطب»، ثم يأتي «ابن النفيس» الذي عُرف بمساهمته في فهم الدورة الدموية، حيث اكتشف الدورة الرئوية وهو ما يُعتبر خطوة جليلة وسبقًا مهمًا في علوم الطب الحديثة. كذلك، يأتي في نفس السياق العالم الكبير «ابن رشد» الطبيب والفيلسوف العبقري الذي قام بشرح أعمال ابن سينا وكان له إسهام عميق وتأثير كبير في التفكير الطبي والفلسفي كما كان له تأثير كبير على الفلاسفة الأوروبيين مثل توما الأكويني حيث ساهمت ترجماته لأعمال أرسطو في تشكيل الفكر الفلسفي في العصور الوسطى الأوروبية. ويأتي في هذه السلسلة من علماء الطب الأفذاد أبو علي الحسن بن الهيثم المعروف ب»البرزالي» وهو عالم مسلم من القرن الحادي عشر ويعتبر واحدًا من أوائل العلماء في مجال الأدوية والعقاقير وطرق العلاج، كما كان له دور في قضايا الأخلاقيات والسلوكيات في تحديد المعايير في الممارسات الطبية كما يُعتبر مؤسس علم البصريات، وكان لأعماله حول الضوء والرؤية تأثير كبير على العلماء الأوروبيين مثل العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن. وفي سلسة أعلام العلماء العرب والمسلمين نذكر العالم الأجل والكهف الأظل الإمام العلامة أبو بكر محمد بن أحمد البيروني، أحد عمالقة علماء العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. ولد في بلدة بيرون وإليها ينسب وهي عاصمة خوارزم، وتنقل في كثير من الأمصار وأهمها الهند حيث استفاد منها كثيرًا وجمع الكثير من علومها ومعارفها القديمة، وقد أتقن الكثير من اللغات مثل: العربية والفارسية واليونانية والسريانية والهندية، واشتغل بعلوم الرياضيات والطبيعيات والصيدلة والفلك والتاريخ وغيرها من العلوم، وقد خلف وراءه تراثًا عربيًا ضخمًا وخالدًا، ولا غرو أن يشيد به مستشرقون درسوا وحققوا بعضًا من مؤلفاته أمثال المستشرق الألماني إدوارد سخاو الذي يصفه بأنه: «أكبر عقلية علمية ظهرت في التاريخ». ولقد عاصر البيروني الشيخ الرئيس ابن سينا وكانت بينهما مراسلات ومناظرات كثيرة، كما جمعتهما زمالة مجْمع العلوم الذي أسسه مأمون بن مأمون أمير خوارزم وكان يزاملهما أيضا في نفس المجمع المؤرخ العربي إبن مسكويه صاحب كتاب (تجارب الأمم). لقد ألف البيروني في الرياضيات والطبيعيات والفلك والتنجيم وعلوم الحكمة والجيولوجيا والبيولوجيا والصيدلة، كما كتب في التاريخ والجغرافيا والأديان وغيرها من فروع العلوم والمعرفة المختلفة، ومن ثم فإن البيروني يعد بحق من أعظم العلماء الموسوعيين وعمالقة الحضارة العربية والإسلامية وفي كل العصور، ولم يكن البيروني يخفي ولعه الشديد باللغة العربية وحبه لها فقد كتب الجانب الأكبر من مصنفاته بلغة عربية رصينة وأسلوب عذب رقيق وبمعان سلسة دقيقة، ولم تكن كتاباته إلا لتكشف عن تمكنه فيها حيث كان يستشهد دائمًا بآي الذكر الحكيم، كذا بالشعر الجاهلي والإسلامي والأمثال العربية. ويأتي دور العالم الكيميائي العربي جابر بن حيان الفيلسوف والطبيب العربي المولود في الكوفة بالعراق الذي قال عنهُ الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون: «إن جابر بن حيّان هو أول من علّم علم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء»، وقال عنه العالم الكيميائي الفرنسي مارسيلان بيرتيلو في كتابه (كيمياء القرون الوسطى): «إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق»، فهو بحق مؤسِّس علم الكيمياء الحديث، حيث أدخل العديد من التقنيات والمفاهيم الجديدة في هذا المجال، وكتب العديد من الأعمال المهمة، منها «كتاب السرّ» و»كتاب الخواص»، والتي تناولت موضوعات في الكيمياء والطب والفلسفة. كذلك قام بتطوير أساليب تجريبية مبنية على الملاحظة والتجربة، مما ساهم في جعل الكيمياء علمًا مستقلًا، كما ساهم في ترجمة العديد من الأعمال اليونانية إلى العربية، مما أدّى إلى تطور الفكر العلمي في العالم الإسلامي. إذن، كان لهذا العالم النطاسي أثركبير على العلماء في العصور اللاحقة، سواءً في العالم الإسلامي أم الأوروبي، حيث عُرف بأنه أحد الرواد في تطوير العلوم الطبيعية إذ تُعتبر أعماله وإنجازاته جزءًا أساسيًا من التراث العلمي العربي الذي ساهم في النهضة الأوروبية في العصور الوسطى. وهناك علماء عرب ومسلمون كثيرون لا يتسع المجال لذكرهم وذكر تراثهم وأثارهم ومساهماتهم في نقل المعرفة والعلوم وفي التأثير على الثقافة الغربية الحديثة، ومنهم على سبيل المثال: الفارابي وابن رشد والخوارزمي وابن بطوطة والإدريسي والزهراوي وغيرهم. وفي ميدان الأدب والفلسفلة والقصص واللغة والبلاغة والترجمة يأتي علماء فطاحل أمثال الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر، ولد في البصرة وتوفي عام 255 ه) حيث يُعَدُّ واحدًا من أساطين العرب الرواد والمفكرين الأفذاذ في الأدب والنقد والبلاغة حيث اهتم في نشأته بالأدب واللغة والفقة والنحو، وتتسم كتاباته بالرشاقة والشفافية واللطف والفكاهة والسخرية، وقد صدر له العديد من الكتب التي تشكل جسرًا بين الأدب والعلم لعل من أبرزها وأهمها: «البيان والتبيين» الذي تناول فيه الأساليب الأدبية وفنون البلاغة، وكذلك كتاب «الحيوان» ويضم مجموعة من القصص والأساطير حول الحيوانات وغذائها وبيئاتها ومكامنها وطبائعها وخصائصها وسلوكياتها، كما يُظهر الكتاب تأملات حول الطبيعة والحياة ويعكس اهتمامات الجاحظ بالنفس الإنسانية وعلاقتها بعالم الحيوانات. كذلك كتاب «البخلاء» الذي هو أحد أشهر وأهم الأعمال الأدبية له إذ يتناول الكتاب ظاهرة البخل من خلال مجموعة كبيرة من القصص السردية والنوادر الطريفة التي جمعها عن البخلاء وطباعهم ونفسياتهم وعاداتهم وسلوكياتهم الغريبة في عصره، ويَظهر فيه ميله للسخرية والدعابة والملاحظات الذكية عن تلك الفئة من البشر وعن حالاتهم المعيشية والاجتماعية. وباختصار، هو موسوعة أدبية ساخرة تُجسد شخصيات البخلاء ومواقفهم الطريفة، مما يجعله عملاً فريدًا خالدًا في الأدب العربي. ولا شك أن أعمال الجاحظ أثرت في الثقافة الغربية من حيث نموذج السرد العلمي الأدبي الذي أثر في الأدب المقارن، كما شكلت مرجعًا للكشف عن عمق الحياة العلمية العربية وأثرها على أوروبا ثم تأثير كتاب «الحيوان» على المباديء المبكرة المشابهة لنظريات التطور والتكيف البيئة وأسهمت في تصحيح التصور الأوروبي حول علم الحيوان قبل نظرية داروين. ونأتي إلى قصص «ألف ليلة وليلة» تلك القصص التي طالما ألهبت الخيال العربي قبل أن تصل إلى الخيال الغربي إذ تُعتبر هذه القصص الشعبية العربية واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي أثَّرت في الأدب الغربي وألهمت خيال العديد من الكتاب الغربيين بأسلوب السرد القصصي المتعدد الطبقات والتشويق الفريد في هذه القصص ومنهم فولتير وتشارلز ديكنز وإدوارد ويليام فقاموا بترجمة وتكييف قصص «ألف ليلة وليلة»، مما جعلها متاحة لجمهور أوسع مما أسهم في ولوجها وتحليقها وانتشارها في سماء الثقافة الغربية. كما تأثرت صناعة السينما بقصص «ألف ليلة وليلة»، حيث تم إنتاج العديد من الأفلام مثل: «علاء الدين» و»سندباد» و»علي بابا» و»قمر الزمان». كما أن الكثير من عناصر الخيال والتشويق في «ألف ليلة وليلة»، مثل السحر والجن والعفاريت، ألهمت الكتّاب الغربيين في تطوير أدب الخيال واللامعقول «الفانتازيا» مثل قصة الكاتب البريطاني «جي آر تولكين في «سيد الخواتم» المبنية على القوة والسيطرة الخيالية المطلقة. كما تأثر الكتاب الرومانسيون أمثال كولريدج وبايرون إلى حد كبير بالجو الشرقي والأساطير الموجودة في «ألف ليلة وليلة»، حيث استخدموا العناصر والأجواء العربية في قصائدهم ورواياتهم. كما حفلت روايات غربية بقصص شخصيات مثل: «هارون الرشيد» و»شهرزاد» و «شهريار» جعلها تحظى باهتمام كبير وبشكل متكرر من أدباء غربيين أمثال الفرنسي جالان الذي لفت انتباه الفكر الغربي لهذه الشخصيات القصصية مما جعلها رموزًا معروفة وشخصيات مألوفة في الأدب الغربي. وتظهر هذه الأمثلة كيف أن «ألف ليلة وليلة» لم تكن مجرد مجموعة من القصص والحكايات فحسب، بل كانت مصدر إلهام كبير للأداب والفنون الغربية، مما ساهم في تشكيل وتطوير وتعزيز الأدب الغربي وأوجد جسرًا ثقافيًا معرفيًا متبادلا بين الثقافتين العربية والغربية. الخاتمة: إن بناء جسور التراث والثقافة العربية جاء في وقت أصبح العالم فيه أشبه بعالم صغير بفضل التطورات المذهلة في مجالات التقنية والمعلومات والاتصالات لتتلاقى فيه الحضارات الذي لا مجال فيه للجمود والتوحد والانعزال، وأضحت الثقافة بمثابة جسر يربط بين الثقافات والحضارات لشعوب أخرى وهي القادرة وحدها على تقريب وجهات النظر بين الشعوب وتحسين العلاقات بين الدول، بل لقد أدرك المجتمع الدولي تلك الحقائق وأدرك معها أن طوق النجاة يكمن في تغليب الحوار بين الثقافات والتعايش بين الحضارات والتسليم بأن مستقبل الجنس البشري مرهون بوجود التعدد والتنوع بين الحضارات لضمان التوهج الفكري والازدهار المعرفي الذي لا يمكن أن يحدث إلا من وراء احتكاك الأفكار وتبادل المعرفة، وهذا في مضمونه العميق اعتراف بأن العقل -وليست القوة الغاشمة- هو سفينة النجاة لشعوب هذا الكوكب لتسير بهم إلى شاطئ الأمن والدعة والسلام والاستقرار والرغد والرخاء. لقد أدى العرب والمسلمون رسالتهم في الحياة على أفضل وجه وحركوا بعقولهم الفعالة مواهبهم المتعددة في الميادين العلمية، فاستحقوا بجدارة أن يكونوا علماء بارزين في الحضارة الإسلامية وأنجمًا ساطعة في سماء التراث الإنساني. *جامعة الملك سعود